الخميس، 15 نوفمبر 2012

السلفيون وتحقيق التوازن

السلفيون وتحقيق التوازن
كتبه/ محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن السلفية منهج عدل ووسط، ولذلك؛ فالسلفيون يحافظون على تحقيق التوازن في كل شيء كما هو منهج الإسلام الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهم يحققون التوازن بين العقل والقلب والبدن، فيلبون احتياجات كل واحد على حدة، دون المساس باحتياجات الآخر.
فتحقيق حاجة العقل إنما تكون بتغذيته بما يكون فيه صلاحه، حتى يُرْزَق فهمًا صحيحًا للأمور، ويكون ميزانًا صحيحًا للإنسان في تقسيم ما يمر به من أحداث، وما يعرض له من أمور، وهذا الغذاء العقلي إنما يكون بتعلم العلم الصحيح النافع الذي جاء به سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، والمنزَّل من عند رب العالمين من الكتاب والسنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه).
فالعلم يحفظ الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، وهو طب العقول ودواؤها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
والعلم يقود الإنسان إلى القول الصحيح والعمل الصحيح، قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد:19)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالعلم مقدَّم على القول والعمل، فلا عمل دون علم.
وأول ما ينبغي تعلمه توحيد الله، فالعلم يبصر الله به من العمى، قال -تعالى-: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الرعد:19)، ولذلك؛ ينبغي أن يكون الإنسان -دائمًا- في استزادة من العلم، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طـه:114).
وتحقيق حاجة القلب إنما تكون بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، فإن هذا يؤدي إلى انشراح الصدر وحصول السعادة، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام:125)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ، أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال:2).
وكذلك من غذاء القلب: البُعد عن المعاصي، فإنها تنقص الإيمان، كما يزيد العمل الصالح من الإيمان، ومن ذلك: التوبة إلى الله -عز وجل-، وكثرة الاستعانة والدعاء، وغير ذلك من العمل الصالح.
وتحقيق حاجة البدن بالطعام والشراب والراحة والزواج، وغير ذلك من احتياجات جعل الله -عز وجل- للبدن حاجة فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) (متفق عليه).
وينبغي عليه أن يدفعَ عنه الآفات التي تضعفه وترهقه وتؤذيه، ويحفظـَه معافى قادرًا على تحصيل احتياجاته الدنيوية والأخروية من الصلاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك.
وكذلك تحقيق التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، فلا ينقطع العبد للعبادة دون السعي في الأرض، ولا يترك العبادة من أجل السعي في الأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:9-10)، وقال -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
وفي حديث حنظلة -رضي الله عنه- وفيه: قال: فقلت: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ؛ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: "وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!"، قَالَ أَحَدُهُمْ: "أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا"، وَقَالَ آخَرُ: "أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ، وَلاَ أُفْطِرُ"، وَقَالَ آخَرُ: "أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا"، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما أراد أن يتصدق بكل ماله:  (لاَ) قُلْتُ: فَالشَّطْرِ، قَالَ: (لاَ) قُلْتُ: فَالثُّلُثِ، قَالَ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) (متفق عليه).
وكذلك تحقيق التوازن بين الحقوق بإعطاء كل ذي حق حقه دون التقصير في حق من الحقوق، فالتوازن: إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، فقد روى البخاري عن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: آخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: "مَا شَأْنُكِ؟!"، قَالَتْ: "أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا"، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: "كُلْ"، قَالَ: "فَإِنِّي صَائِمٌ" قَالَ: "مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ" قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ؛ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: "نَمْ"، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: "نَمْ"، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: "قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا"، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صَدَقَ سَلْمَانُ) (متفق عليه).
وعن عبد الله عن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)، فَقُلْتُ: "وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟" قَالَ: (نِصْفُ الدَّهْرِ) (رواه البخاري).
وروى البخاري في قوله -تعالى-: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (النور:37)، وقال قتادة: كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله؛ لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله.
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ؛ فَلْيَضْطَجِعْ).
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَلاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ؛ هُجِمَتْ عَيْنُكَ، وَتَفِهَتْ نَفْسُكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) (رواه البخاري).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "(فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله من الطعام والشراب والراحة التي يقوم بها بدنه؛ ليكون أعوَنَ على عبادة ربه، ومن حقوق النفس: قطعها عما سوى الله -تعالى-، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية.
قوله: (وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أي: تنظر لهم فيما لابد لهم منه من أمور الدنيا والآخرة، وقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقوم وينام، ويصوم ويفطر، فيجمع بين الحقوق، بين حق الله وحق نفسه، وكما جاء في الروايات السابقة يجمع مع ذلك حق الضيف، وحق الزوجة".
وكذلك يراعي التوازن في الواجبات فلا يضخم واجبًا، ثم يترك أو يهمل أو يقصر في واجبات آخر، بل عليه أن يوازن بين الواجبات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟!) قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ"، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وكذا تحقيق التوازن في العمل بلا إفراط ولا تفريط، وبغير تشدد ولا تسيب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ) (رواه البخاري)، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلاَثًا. (رواه مسلم)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا؛ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا" (متفق عليه).
وقال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (لأعراف:31)، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء:29)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) (رواه البخاري)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان:67)، وقوله -تعالى-: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء:110).
وقول -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قِبَلَكُمْ بِتَشْدِيدِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ) (رواه الطبراني وأبو يعلى، وصححه الألباني). وقال -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طـه:1-2).
وإن من التوازن: ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، وتقديم واجب الوقت على غيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (متفق عليه).
فلا بد من تقديم الواجب الأهم على المهم من شعب الإيمان، وقد بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلى قَوْمِ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: عِبادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذا فَعَلُوا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكاةً مِنْ أَمْوالِهِمْ وَتَردُّ عَلى فُقَرائِهِمْ، فَإِذا أَطَاعُوا بِها؛ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرائِم أَمْوالِ النَّاسِ) (متفق عليه).
وعن البراء -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟" قَالَ: (أَسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ)؛ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَمِلَ قَلِيلاً، وَأُجِرَ كَثِيرًا) (رواه البخاري).
وهذا يدل على اهتمام الإسلام بترتيب الأولويات، فينبغي تقديم الفرض على النافلة، وفرض العين على فرض الكفاية، وفرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به البعض، والفرض الذي له وقت معين على الفرض المطلق؛ لأن أمر المسلم لا يستقيم إلا بذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق