الأحد، 9 يونيو 2013

السلفية و الولاء و البراء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالدعوة السلفية هي: دعوة للرجوع لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بفهم سلفنا الصالح -رضوان الله تعالى عليهم جميعًا-.
والسلف: هم الصحابة ومن تابعهم بإحسان من سائر القرون الخيرية، وأئمة الدين العدول.
والسلفيون: هم من تابعوهم على هذا الفهم إلى يومنا هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا هو المنهج المنضبط لفهم الإسلام والعمل به، (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) فكل من أراد النجاة و الفوز والرضوان، وأن يكون من الطائفة الظاهرة المنصورة فما عليه إلا الرجوع لمثل ما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة:137) (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (رواه البخاري)، وقال عنهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كانوا ـ أي: صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا".
ولن نستحق هذه الخيرية؛ إلا إذا سلكنا طريقهم، ولا يمكن أن تتوحد الأمة؛ إلا باتباع منهجهم وسبيلهم.
"كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف".
"ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
ولا يقال لمن أطاع الله: فرقت صفوف هذه الأمة، إنما يقال لمن عصى، وابتدع، وخالف كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- كالشيعة، والخوارج، والصوفية، (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة: 14).
ولا يمكن أن تجتمع القلوب على البدع والضلالات، وفي حديث العرباض -رضي الله عنه-: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى) (صحيح).
فالمخرج من الخلاف هو: اتباع السنة، والحق واحد، والباطل كثير، لا ينحصر،(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1).
ونحن لا نرضى للإسلام بديلاً، ولا عنه تحويلاً .
وقد شاعت الأسماء في السلف -رضي الله عنهم- مثل: "المهاجرين" و"الأنصار" أو "أهل السنة والجماعة".
والتعصب على الحق محمود، والمذموم هو التعصب على الباطل، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
ويقال لكل من دعا بدعوة غير دعوة الإسلام، أو اجتمع مع غيره على باطل: "دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ".
ونحن يسعنا ما وسع سلف الأمة -رضي الله عنهم-، فالأصول التي كانوا عليها معصومة بعصمة الكتاب والسنة، وقد كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة، والأخوة الإيمانية.
ويقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى- : "من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافًا لا يُعذر فيه؛ فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع".
ثم الحق مقبول من كل من جاء به كائنًا من كان، والباطل مردود على صاحبه كائنًا من كان، فهذه الدعوة المباركة هي دعوة المسلمين: كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وهي دعوة شاملة شمول الإسلام لكل ناحية من نواحي الحياة سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو أخلاقية.
وإذا كان لا يجوز اتهام الإسلام بالحزبية والعصبية المذمومة؛ فكذلك الأمر هنا، فلا يصح أن نتهم الدعوة السلفية بمثل تلك النعوت.

فإن الأخوة منحة من الله -عز وجل- يعطيها الله للمخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 63)، وهي قوة إيمانية تورث شعورًا عميقًا بعاطفة صادقة ومحبة وود واحترام وثقة متبادلة مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد، يتبعها ويلزم منها: تعاون وإيثار، ورحمة وعفو، وتسامح وتكافل وتآزر، وهي ملازمة للإيمان، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).
ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من أُشرب هذه الأخوة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (رواه البخاري).
وهم مع ما هم فيه من التواد والتراحم يدٌ على من سواهم، أشداء على الكفار، قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح: 29)، فالأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم، والتمكين لهم.
فأي دولة لا يمكن أن تنهض إلا على أساس وحدة الأمة وتماسكها، ولا يمكن للوحدة أن تتم بغير التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تآلف بينها ولا تآخٍ؛ لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة في الأمة والجماعة؛ فلا يمكن أن تتآلف منها الدولة، فالحب بين المسلمين والحرص على روابط الأخوة المستمدة من الإيمان والعقيدة سر قوة الأمة، ومفتاح نجاحها ونصرها، قال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:8-9).
فعُلِمَ أن من أبرز صفات المسلم الصادق: حبه لإخوانه حبًّا ساميًا مجردًا عن كل منفعة، بريئًا من أي غرض، نقيًّا من كل شائبة، إنه الحب الأخوي الصادق الذي استمد صفاءه وشفافيته من مشكاة الوحي وهدي النبوة، فالرابطة التي تربط المسلم بأخيه مهما كانت جنسيته أو جنسه أو لونه أو لغته أو قوميته هي رابطة الإيمان بالله، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).
وأخوة الإيمان أوثق روابط النفوس، وأمتن عرى القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح، فلا عجب أن تثمر تلك الأخوة الفريدة نمطًا من الحب عجيبًا في سموه ونقائه، وعمقه وديمومته، يسميه الإسلام: "الحب في الله"، ويجد المسلم الصادق فيه حلاوة الإيمان، فالحب في الله يجعل العبد في زمرة السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ويشملهم برحمته وبره.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
وحسب المتحابين في الله شرفـًا أن رب العزة يحفل بهم في ساحة الحشر يوم القيامة، فيقول: (أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) (رواه مسلم)، وقال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ) (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وهذا الحب في الله هو الذي يرفع الإنسان إلى الدرجة التي يحبه الله -عز وجل- فيها ويرضى عنه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ؛ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟، قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.
وهذه المحبة بين المؤمنين شرط من شروط الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ). وبهذه المحبة الناصعة الصادقة العجيبة بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيل الإسلام الأول الذي بلـَّغّ رسالة السماء إلى الأرض، وكان القاعدة الصلبة التي حملت صرح الإسلام الشامخ إلى الناس.
وبدون هذه المحبة الصافية التي تفرد بزرعها الإسلام في القلوب؛ ما كان المسلمون الأوائل ليستطيعوا التماسك والصمود في تحمل تبعات الجهاد وتقديم التضحيات الجسيمة في بناء دولة الإسلام ونشر أعلامه في الخافقين، وبهذه المحبة الصادقة استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينشئ مجتمع المؤمنين الأمثل في تاريخ الإنسانية الذي صور الله -سبحانه وتعالى- تماسكه العجيب أروع تصوير بقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف: 4)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-:  (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ؛ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ؛ اشْتَكَى كُلُّهُ) (رواه مسلم).
مفهوم الولاء وصلته بالمحبة:
إن قضية الولاء في الإسلام هي من أهم القضايا في حياة الفرد المسلم، ولابد أن تكون هذه القضية واضحة كل الوضوح أمامه؛ لأنها قضية مهمة وهي التي تميز الفرد المسلم والصف المسلم، فمن كان من المسلمين بظاهره وباطنه؛ فهو منهم، ومن كان مع أعداء الله في ظاهره أو باطنه؛ فهو منهم، ولذلك ورد النهي الشديد عن اتخاذ الكافرين والمنافقين، ومن والاهم أولياء.
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء:144).
وقال -تعالى-: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:28).
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة:1).
كما بيـَّن القرآن أن الكفار صف واحد يوالي بعضهم بعضًا ويجمعهم جميعًا، أنهم أعداء لدين الله -تعالى-، قال -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (التوبة:67)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (الأنفال:73)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (المائدة:51).
فإذا كان أعداء الله بعضهم أولياء بعض، فلابد أن يكون المؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولابد أن يكون هذا الولاء متميزًا كل التميز، والله -تعالى- ولي المؤمنين جميعًا، قال -تعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة:257).
وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71).
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (الأنفال:72).
وبين الله -سبحانه و-تعالى- أن من يتولى الكافرين أو المنافقين فإنه منهم، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة:51)، وقال -تعالى-: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) (آل عمران:28).
فالقرآن الكريم يطلب من المسلم أن يقطع كل ولاء للكافرين، وأن يكون ولاؤه لله ورسوله والمؤمنين فقط، قال -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة:22).

الثلاثاء، 14 مايو 2013

هذه هي السلفية إن كنتم تفقهون

إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهْده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد: فإنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهَدْي هدي محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدثاتُها، وكل مُحْدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قال تعالى: ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [الإسراء: 81]، وقال: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) [الأنبياء: 18].

لذا؛ فلا يُمْكِن إزاحة الباطل إلا بالحقِّ، ولا يمكن معرفةُ الباطل أنَّه باطل إلاَّ بعد التعرُّف والاهتِداء إلى الحق.

أما وقد كَثُر الحديث عن السلفيَّة وصُوَرِها وتاريخها، وقيمتها في انبعاث المسلمين الحضاريِّ لدى الإسلاميِّين والعصرانيِّين معًا، فَهُنا تأتي المشكلة الأولى في قضيَّة السَّلفية، وهي مشكلة المَضْمون لهذا المصطلح، وماذا تعني السَّلفية لدى المهتمِّين بها مِن رافعي شعارها، أو من المُتوجِّسين خيفةً منها، أو من الرافضين ابتداءً لَها؟

سوف نَجِد تعدُّدًا للمفاهيم يصل إلى حدِّ التناقض؛ مِمَّا يؤدِّي إلى التباس الأمر على راغب التعرُّف عليه، حيث يقع في فوضى فكريَّة.

فالسلفيَّة رجعيَّة وجُمود، وتجديدٌ وتجاوز، وهي ركونٌ إلى التقليدِ والاستعبادِ للماضي، وهي رفْضٌ لِمُخلَّفات الفساد، وتطهيرُ الحياة الإسلامية من الشَّوائب الفكرية والسُّلوكية!

وإذا كان المفترض للواقف على مثل هذه التصوُّرات عن السلفيَّة أن يستبين حقيقتَها في جذور السلفية وإطلاقاتِها الأولى.

لماذا؟ لأنَّ الذين ينتسبون إلى السلفيَّة منهم بالفعل من يتهمون بأنهم متجمدون منغلقون، ومنهم مَن هم في طليعة المنادين بالتَّجديد الدِّيني"، وأيضًا لن يُجْدِي في حلِّ هذا التناقض أن يُقال: ليس كلُّ مَن انتسب إلى السلفيَّة يُمثِّلها؛ لأنه قد يقال: هات شخصًا يمثِّل السلفية في متعارَفِ الجميع، وأنا أستخرج لك من أقواله في الوقوف مع النُّصوص الشرعية، ورفض ما يُخالفها أيًّا كان، مِمَّا يعد جمودًا وانغلاقًا، ثم أستخرج لك من أقوال أخرى لِهذا الممثِّل للسلفية تعظيم العقل والتَّحاكم إليه ما يعد عقلانيَّة وتحرُّرًا، وكل قابل للتفسير والتأويل.

ولن ينتهي الجدَلُ حتَّى ولو كان مداد النَّظر، والسبب كامن في منطلق التعريف ذاته؛ من حيث القناعةُ الفكريَّة التي يُبنى عليها التَّعريف، فالتَّعريفات المعاصِرة للسَّلفية - غالبها - معياريَّة؛ أيْ: إنَّها لا تعرِّف السلفيَّة على حقيقتها كما هي بروحٍ حياديَّة، وإنَّما تعرِّفها في ضوء موقف محدَّد من خارج السلفية، مناوئٍ لها في الغالب، فهو تعريف يَحكم ويُحاكِم، سواءٌ أكان من خلال مواقف تراثيَّة؛ كالموقف الاعتزالي، أم من خلال مواقف عصرانيَّة عقلانية، أم علمانية.

فإذا وجد في السلفيَّة ما يتَّفِق وبعضَ عناصر موقفه ولو بتوافُقٍ لفظي، فإنه يتصوَّره من خلال موقفه هو، ويُسْبِغ عليه من صفات المدح والتجديد، والتحرير والاستنارة، وما وجده مُخالِفًا لموقفه عدَّه تحجُّرًا وتقليدًا وظلاميَّة.

والنظر إلى السلفية بهذا المنظار التاريخيِّ، وهذا الذي يُمارسه كثيرٌ من الدَّارسين العصرانيِّين وبعض الإسلاميِّين، حيث يَنظرون إلى تطوُّرات فِكْر العلماء والمفكِّرين المسلمين، وتنوُّعاته على أنَّه تمثيل للسلفيَّة وفق مقتضيات الظُّروف والأوضاع الفكريَّة.

النظر بهذا المنظار خطأٌ، والسبب: أنَّ للسلفية أصولاً لَم يولِّدها الفكر البشريُّ، ولا الظروف التاريخية، إنَّما عمادها وحْيٌ إلَهي مستمَدٌّ من خارج الدائرة البشرية، انتهى تنَزُّله منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، والحقيقة التي يَجِب أن يدركها الكثيرُ من طالبِي الحقِّ أن السلفيَّة بصِفتها اتِّجاهًا متميِّزًا يقدِّم النُّصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجًا وموضوعًا، ويلتزم بِهَدْي الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهَدْي أصحابه عِلمًا وعمَلاً، ويطَّرِح المناهج المخالِفة لِهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع، فهي تُمثِّل مذهبيَّةً متكاملةً، ومنظومة شاملة من المفاهيم المتعلِّقة بالمعرفة، والوجود، والكون، والإنسان، والحياة.

المعنى اللغوي: السَّلف: في "معجم مقاييس اللغة" قال ابن فارس: "السِّين واللاَّم والفاء أصل يدلُّ على تقدُّم وسَبْق".

وقال في "لسان العرب": "السلف الجماعة المتقدِّمون، في السَّير، أو في السِّن، أو في الفضل، أو في الموت، والسَّلفي هو: المنسوب أو المنتسب للسَّلف؛ لأنَّ الياء هذه ياء النسبة، فالسَّلَفي هو الذي ينسب نفسَه للجماعة المتقدِّمين، ولا بد من علَّةٍ لِهذه النِّسبة.
وللسَّلَفية وجه آخر، وهو كونُها تتضمَّن معنًى معيَّنًا، هو خاصيَّة السَّبق عند الجماعة المتقدِّمين: السلف سيرًا أو سنًّا أو فضلاً أو غيره.

ولِهذا نظائره في العربية؛ فَمثلاً: الحنيف: هو المائل، وسُمِّي إبراهيم - عليه السَّلام - حنيفًا؛ لأنه مال عن الشِّرك الشائع في الأرض إلى التوحيد، ثم سُمِّي كلُّ من وحَّد الله حنيفًا، وصارت الحنفيَّة تعني التَّوحيد.

وهنا نجد أن السَّلف هو: الصَّدْر الأول من المسلمين في هذه الأمَّة، وفي قمَّتِهم أصحابُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وسنجد أن السَّلَفية هي المعنى الإسلاميُّ الذي تَمثَّلوه في قلوبِهم فَهمًا، وفي شخصياتهم سلوكًا.

هذا المضمون للسلفيَّة من حيث هي التمثُّل الأول لمفاهيم الإسلام، وتطبيق مَطالبه، برز مبكِّرًا، حينما وجَّه إليه الرسول محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث التفرُّق، الذي قال فيه: ((إنَّ بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتِي على ثلاث وسبعين ملَّة، كلُّها في النار إلا ملَّة واحدة))، قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ صحَّحه ابنُ باز.

كما وجَّه ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى التزام السلفيَّة بِمَضمونها المذكور بقوله: "مَن كان منكم مُستنًّا فلْيَستَنَّ بِمن مات؛ فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا"؛ أخرجه ابن عبدالبرِّ، وإسناده لا بأس به، وله شواهد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما.

فالسلفيَّة - بصِفَتِها منهجًا لفهم الإسلام والتزامِه - تَمثَّلت في جيل الصَّحابة بصورتِها النقية؛ ولِهَذا كانت الدَّعوة إلى السلفيَّة دعوةً إلى الرُّجوع لذلك المنهج، ولأنَّ الدعوة إلى السلفيَّة؛ أيْ: إلى منهج صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نادى بِها الرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ونادى بها علماء الصَّحابة - رضي الله عنهم.

السَّلفية في الفكر الغَرْبِي:

الأصوليَّة والسلفيَّة: في الفِكْر العربي المعاصر - والإعلام بخاصَّة - شاعَت لفظة الأصوليَّة بمعنًى مُقارب أو مُطابق لدى بعضهم مع السَّلفية، ولَمَّا كانت الأُصوليَّة ترجمةً لِمُصطلح غربي "دخيل" ساغ إيرادُها هنا؛ حتَّى تكون حاضرةً في الذِّهن حين الكلام عن السَّلفية في الفكر الغَرْبي، ثم الفكر العرَبِي المعاصر.

فقد ذكَر البعلبكيُّ في كتابه "المورد" أنَّ الأصولية: "تُطلَق على حركةٍ تبلورَتْ في القرن العشرين لدى البروتستنت، تؤكِّد على أن الكتاب المقدَّس معصومٌ عن الخطأ في العقيدة، والأخلاق، والأخبار التاريخيَّة، والغيبيَّة، كقصَّة الخلق، ومَجيء المسيح، والحشر الجسدي، واللَّفظة من fundamentalism" التي تعني الأصلي أو الأوَّلِي، وهي الأصولية.

ومن أبرز صفات الأصوليين، كما يرصدها كاتبٌ غربي:

• تَنْزيه الإنجيل عن احتمال تسرُّب الخطأ إليه.

• ظاهريَّة التلقِّي لكلماته دون تأويلٍ أو تحويل.

• التنكُّر الشديد لإنجازات العصر الحاضر في التصوُّرات، والأفكار؛ خاصَّة العلمانية.

• التشدُّد في التزام الدِّين، واعتبار النَّصارى الذين لا يَسْلكون مناهجَهم في التديُّن خارجين على الدِّين، وسعيُهم لفرض الدين على المجتمع بقوَّة.

ولهذا صارت الأصوليَّة عند الغَرْبي رمزًا للوحشيَّة والانغلاق، ومعاكسة لتيَّار الحياة، وعقبة أمام تطوُّر الحياة.

وحينما تعالَتْ حركة الالتزام بالإسلام لدى الشُّعوب المسلمة، وتجاوزَت حدود التديُّن الفرديِّ إلى السَّعي نحو صياغة الحياة الاجتماعية والسِّياسية والفكرية صياغةً إسلامية، فيما أُطْلِق عليه اسم الصَّحوة الإسلامية، كان من ضرورة ذلك أن يصطدم هؤلاء الإسلاميُّون السَّاعون لإصلاح الحياة - إسلاميًّا - بالعلمانيِّين الذين يَقِفون في الخطِّ المقابل، رافضين أن يُداخل الإسلامُ الحياةَ وفق مطامعهم.

ولذا أطلق الغرب على هذه الصحوة "الأصوليَّة"، وعرف أصحابها "بالأصوليِّين" في مقابل "العلمانيين".

ومن هنا: صار الإعلام الغربِيُّ - والعرَبي بالتَّبع - يتسقَّط المنتدَبين للصَّحوة الإسلامية، بفِكْرهم أو بِهيئتهم؛ لِحيةً، وحجابًا، أو حتى بمجرَّد دعواهم، ثم أصبحت الصُّورة محصورةً في هذا التصنيف: إسلاميُّون كلهم أصوليُّون - إرهابيون - مقابل العلمانية، خاصَّة في المجال الفكري.

لقد كان من آثار خبُوِّ وهج العلمانيَّة في البيئات الإسلاميَّة أنْ تقمَّصَ بعضُ أتباعها رداءَ الإسلام؛ ليتحرَّكوا تحت رايته بعلمانيَّتِهم بأسماء مُختلفة: كالإسلام التقدُّمي، وفكر الاستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي... وأصبحوا ملقَّبون بالمفكِّرين الإسلاميين، يفسِّرون الإسلام على أنه قوميَّة، أو مجرَّد قِيَم عليا - عدالةً وجلبًا للمصلحة، ودرءًا للمفسدة - للمسلم أن ينظِّم حياته على أساسها كيف يشاء.

أما أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأنَّ إسلاميَّة الفرد والمجتمع لا تَكْتمل إلاَّ بالتزامه بِهذا المنهج: عقيدةً وعبادةً ومعاملاتٍ وسلوكًا، مِمَّا يُنادي به الإسلاميُّون، فهو الرِّدة الحضاريَّة، والتَّزمُّت المرفوض الذي يقاوِمُه هؤلاء العلمانيُّون، باسْم الإسلام نفسه، الذي هو "دينٌ علماني".

ومن هنا تَجَاوزَ التصنيف كونَه: "إسلاميُّون مقابل علمانيين صُرَحاء..." إلى كونه: "إسلاميون أصوليُّون (متطرِّفون) مقابل تقدُّميين أو مفكِّرين إسلاميين...".

فهؤلاء العصرانيُّون ربَّما يرفضون الإسلام كليًّا أو جزئيًّا من جهة، ويتغالبون على رسم مشاريع النهوض بالأمَّة المسلمة من ركودها الحضاري.

في هذا الجو برزت السلفية:

لا بصِفَتها اتِّجاهًا مِن اتجاهاتٍ شتَّى تَنتسب للإسلام، وإنَّما بصفتها الاتِّجاه الممثِّلَ للإسلام بأعلى صورة، المقاربة لحقيقته الكاملة بحسب الطَّاقة البشريَّة.

ولكن هل ستُسلَّم للسلفيَّة هذه الدعوة الخطيرة بمجرد رَفعها لها؟ خاصَّة أنَّ الآخرين - من خارجها كما ذكَرت ممن لهم اتِّجاهاتٌ مُخالفة سيسعون لإثبات دعوى مُماثلة، ومن ثَمَّ زحزحة السلفيَّة عن التفرُّد بهذا المقام!

مي عبد الصمد

الخميس، 25 أبريل 2013

السلفية المفهوم والتحديات‏


لفظ سلف في اللغة يراد به ما مضى وتقدم كما قال تعالى :"وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ‏فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"[البقرة :275] كما يراد به القوم ‏الـمتقدّمون فكل من تقدم من الناس فهو سلف لمن جاء بعدهم ، قال الله تعالى :"فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين" وقد ‏وردت مادة "سلف" في القرءان في ثمانية مواضع كلها دالة عما تقدم ذكره، والملاحظ في اللفظ مطلق التقدم الزمني، دون ‏الاقتصار على قوم معينين أو جماعة محددة من الناس، والسلف بمعنى من سبق منهم الصالحون ومنهم الطالحون، والنسبة إليه ‏سلفي، والسلف الصالح بالنسبة لنا هم أصحاب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والنسبة إليهم لا تعني إلا أن المنسوب ‏إليهم سائر على نهجهم وطريقتهم، وعلى ذلك فالسلفية ليست جماعة من الجماعات، كما أنها ليست فترة زمنية من الفترات ‏مرت وانتهت، وإنما السلفية تعني متابعة السلف الصالح في تعاملهم مع كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، في فهم الدين والعمل ‏به والدعوة إليه، وهم أهل السنة والجماعة، مما يعني أن السلفية منهج علمي وعملي شامل ومتكامل تجاه النصوص ‏الشرعية، وليست مجرد موقف علمي، وقد حث الله تبارك وتعالى على اتباع السلف الصالح في قوله :"وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ ‏مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة :100]، كما قال عنهم رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم :"خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين ‏يلونهم"‏ ، فهي بذلك منهج قابل للتكرار على اتساع الزمان والمكان.‏

‏لقد كان التزام المسلمين بالمنهج السلفي في التعامل مع نصوص الشريعة من حيث الفهم والعمل، ضمانة ثبات الدين ‏عندهم وعدم تحريفه في أذهانهم، مصداقا لقوله تعالى :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر:9] كما مكَّن هذا ‏الالتزام من التعامل مع النوازل والمستجدات بالطريقة نفسها التي تعامل بها السلف الصالح معها، مما يعني وحدة المنهج التي ‏تؤلف بين المسلمين فتجعل منهم نسيجا متجانسا، ولا يعني هذا عدم الاختلاف بين أصحاب المنهج السلفي في الفهم مطلقا، ‏فذلك أمر غير مقدور كما أنه ليس مطلوبا، وإنما يكون الخلاف في هذه الحالة خلافا منضبطا أي وفق أطر وقواعد معلومة، ‏تنأى بالاختلاف في الفهم والاستنباط عن أن يكون تفرقا في الدين، أو تفلتا وخروجا على النصوص، كما لا يعني العصمة ‏في الفهم والعمل، بحيث لا تكون هناك أخطاء علمية أو عملية، فذلك أيضا لم يُضمن لأحد غير الرسل صلوات الله وسلامه ‏عيهم، ومن أدبيات المنهج السلفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير ‏النبي ‏ صلى الله عليه وسلم "‏ ، وتبعه في ذلك مجاهد فقال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ‏ صلى الله عليه وسلم "‏ ، وقد ورد نحو هذا عن الأئمة ‏الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، وقد ورد نحو ذلك أيضا عن كوكبة كبيرة من أهل العلم في ‏جميع المذاهب.‏

‏لقد كانت طبيعة هذا المنهج الذي يلتزم بقول الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا ‏اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات:1]، وبقوله تعالى :" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ‏الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً" [الأحزاب:36] سبب رئيس لأن يتحالف ضد متبعيه على طول ‏التاريخ المتفلتون الذين لم يقدموا الكتاب والسنة على ما عداهما مما يظنونه من اتباع العقول أو المصالح، بل عدوا الكتاب ‏والسنة كأحد ما يمكن أن يرجع إليه ضمن أشياء أُخر.‏

مفاهيم خاطئة عن المنهج السلفي :‏

يروج المناوئون للمنهج السلفي بعض المفاهيم المغلوطة عنه، ويخلطونها ببعض التحليلات التي تعتمد على تلك ‏المفاهيم، فمن ذلك دعواهم :أن المنهج السلفي منهج إقصائي حاد وعنيف يلغي الآخر المسلم ولا يعترف به، مما يترتب عليه ‏تقسيم البلاد وتفتيت الجماعة، وتهديد الوحدة الوطنية والعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي وهو يؤدي في النهاية إلى ‏الاحتراب الداخلي، وهم يدعون لأجل ذلك إلى إقصاء المنهج السلفي، وإلى التمييع في متابعة الكتاب والسنة والسلف ‏الصالح بزعم التمكين للتعددية الثقافية والمذهبية، وهذا بلا شك غير صحيح بل أصحاب المنهج السلفي هم أهل اتِّباع السنة ‏وأهل الجماعة والاجتماع، فهم حريصون على الجماعة يذمون التفرق ويصبرون من المخالف على الأذى، قال الإمام أحمد ‏رحمه الله تعالى في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله ‏قال :الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقابا من أهل العلم يدعون من ضل إلي الهدى، ويصبرون منهم علي ‏الأذي، يحيون بكتاب الله الموتي ويبصرون بنور الله أهل العمي، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد ‏هدوه، فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، وقد طبق ذلك رحمه الله عمليا وموقفه العملي في ذلك مع ‏المعتزلة الذين عذبوه وسجنوه معروف مشهور، وهذا مالك بن أنس رحمه الله تعالى لما اسشاره هارون الرشيد في حمل الناس ‏على موطئه قال له :"لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان ‏عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال"‏ ‏ ، ومواقف أصحاب المنهج السلفي في ذلك كثيرة مشهورة فكيف يقال ‏عنهم إنهم إقصائيون؟ وقد سُمي السلف الصالح بأهل السنة والجماعة من حرصهم على الالتزام بالسنة ومجانبة الابتداع، ‏وعلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وبهذا يظهر أن هذه مواقف أصيلة في المنهج السلفي وليست تنازلات مؤقتة فرضتها ظروف ‏قاهرة، والشيء الغريب في ذلك أن الذين يرمون الاتجاه السلفي بهذه الفرية هم من يعلنون ويطالبون بإقصاء التيار السلفي، ‏بل الأغرب من ذلك أن من قبل من هؤلاء بالحل الديمقراطي وأن يكون قرار الشعب هو الفاصل، تجده يقول :ولكن كيف ‏نفعل ذلك من غير أن يصل أصحاب المنهج السلفي إلى الحكم؟، فحتى النظام الانتخابي الذي ارتضوه يسعون إلى صياغته ‏ليكون قائما على الإقصاء.‏

ومن ذلك حديثهم أن أصحاب المنهج السلفي لا يستطيعون العيش بدون معارك داخلية مع العلمانيين والراوفض ‏وغيرهم، والشيء الغريب أن أصحاب هذه الأقوال هم من يقومون بمعارك داخلية عنيفة وإقصائية مع من يختلفون معهم، ‏لكنهم لا يقبلون أن يرد عليهم أحد، فهم ينكرون على غيرهم ما هم غائصون فيه إلى الأذقان، ولكن بفارق مهم هو أنهم لا ‏مرجعية لهم في إنكارهم على السلفيين، فمن المعلوم من دين الإسلام وعند كل المسلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن ‏المنكر مما أمرت به الشريعة وجاءت به الرسالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات ثلاثة باليد واللسان والقلب، ‏ولا شك أن كل من كان لديه علم صحيح فعليه أن يقوم بالبيان في هذا الأمر، فهل المطلوب من السلفيين أن يكفوا عن ‏الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغلقوا أفواههم على ألسنتهم حتى يقال عنهم إنهم منفتحون أو يقبلون بالتعددية؟، إن ‏هذا الاعتراض في حقيقته هو اعتراض على شريعة الإسلام نفسه وليس على السلفيين فحسب، إن الأمر والنهي أمر قد ‏مارسه المسلمون في كل عصورهم، وكان ضمانة مهمة من ضمانات أمن المجتمعات الإسلامية، وإن الدعوة اليوم إلى إهماله ‏أو تهميشه بحجة السماح بالتعددية الثقافية ونحو ذلك هي دعوة إلى إفساد المجتمعات وتخريبها، وتلك مهمة كثير من التيارات ‏المناوئة للمنهج السلفي .

حرب السلفية من جهة تيارات الحداثة بجميع فصائلها :‏

كل من كان يريد الخروج على هذه الشريعة الكاملة ومنازعة الكتاب والسنة في المرجعية، فلا بد أن يهاجم أصحاب ‏المنهج السلفي لأن أصحابه هم الذين يتصدون له ويردون عليه بالدليل ويبينون زيف كلامه أو دعواه.‏

‏ في عصرنا الحاضر توجد مجموعات عدة تعادي أصحاب المنهج السلفي، بعضها يستند إلى جذور قديمة وبعضها ‏محدث جديد، فممن يستند في ذلك إلى أصولهم ومرجعياتهم القديمة، الشيعة وكذلك الصوفية.‏

‏ لكن هناك فئة معاصرة تعادي أصحاب المنهج السلفي، من غير أن يكون لهم سلف أو أصول يمكن أن يرجعوا إليها، ‏وهي فئة العصرانيين أو الحداثيين أو الليبراليين، ما يجعلهم مقطوعي الصلة مبتوتين عن أوضاع المجتمع الإسلامي، وإن حاولوا ‏الاستناد على المعتزلة الذين قدموا العقل في أمور كثيرة على الكتاب والسنة، فكانوا لهم سلف من هذه الناحية، فلذلك يكثر ‏من هذه الفئة المديح والتبجيل لهم، ومحاولة إحياء تراثهم، حتى صار الثناء على المعتزلة يمثل علامة بارزة لأصحاب هذه ‏الاتجاهات. ‏

لقد وفرت الحملة الأمريكية الظالمة التي تشنها هي وأحلافها-على ثبات الدين الإسلامي في محاولة لتفريغه من ‏مضمونه، أو تطويره الذي يعني تغييره وتبديله، متذرعة في ذلك بما ابتدعته وروجت له باسم الحرب على الإرهاب، وقد ‏قدمت العديد من مراكز أبحاثهم توصيات لتحيق ذلك كتقوية الفئات المبتدعة أو الفئات الليبرالية والاتصال بهم، وفرضهم ‏على الأنظمة، والسماح بإدخال بعضا من أطروحاتهم ومفاهيمهم للدين لتكون جزءا من المناهج التعليمية،-وفرت شروطا ‏لنجاح أصحاب تلك الفرق في مشروعهم التخريبي، الذين عملوا على الاستفادة من هذه الأوضاع، واستغلال حالة الضعف ‏الشديدة التي تمر بها الكثير من الأنظمة الإسلامية، والتي لم يعد يشغلها سوى الحفاظ على مكاسبها وأوضاعها.‏

وقد تعرض المنهج السلفي في عصرنا على أيديهم إلى مناوأة شديدة على مختلف الأصعدة ويمكن تقسيم الحديث عن ‏حربهم للسلفية إلى ثلاثة محاور :‏

الأول :المرجعيات أو المصادر (الكتاب-السنة-الإجماع)‏

الثاني :منهج التعامل العلمي والعملي.‏

الثالث :رموز ورجالات المنهج السلفي.‏

وقد حظي كل محور من هذه المحاور بحملة من الهجوم والقدح لمحاولة إفراغه من مضمونه، أو إسقاطه من نظر ‏المسلمين.‏

حرب المرجعيات :تمثلت هذه الحرب في محاولة تهميش مكانة الكتاب والسنة والإجماع باعتبارها الأصول الضابطة التي يرجع ‏إليها عند الاختلاف، وذلك من خلال الحديث عن: ‏

‏1.‏ تعددية القراءة للنصوص الشرعية، بمعنى أن النص الشرعي يمكن فهمه بأكثر من طريق، أو أسلوب، مما يسمح ‏بالوصول إلى نتائج مختلفة أو متباينة، وأحقية كل واحد أن تكون له قراءة خاصة به، يفهم من خلالها النصوص بلا ضابط ‏يضبط ذلك، سوى الحديث عن موافقة العصر ومجاراة التطور، وعدم التحجر أو مخالفة العقل، من غير اشتراط لأي ‏إمكانيات أو مؤهلات علمية تعين على الفهم والاستنباط، وهم في ذلك متأثرون بالنظرة الغربية لكتبهم المقدسة التي فقدت ‏قداستها لكثرة ما وقع فيها من الخلط والاضطراب، الذي هو أحد نتائج التحريف الذي تعرضت له تلك الكتب على أيدي ‏أتباعها.

‏2.‏ إهمال مكانة أصحاب التخصص في العلوم الشرعية في الفهم والاستنباط، تحت زعم نفي الوصاية والقداسة، ومن ‏هذا المنطلق، انفتح الباب على مصراعيه لكل دخيل دعي يزعم أحقيته في مخالفة المستقر المعلوم الذي دلت عليه النصوص، ‏وأيدته أقوال أهل العلم على مدى القرون، وهم في ذلك أيضا متأثرون بالنظرة الغربية لعلماء دينهم الذين جعلوا من أرائهم ‏ومعارفهم المحدودة، شرعا ودينا يضاهي ما نزل من عند الله العلي الكبير، فقامت لأجل ذلك في الغرب حركات للإصلاح ‏الديني من أشهرها حركة "مارتن لوثر"، حيث دعا إلى رفع وصاية القساوسة عن "الكتاب المقدس" وأن تتاح قراءته لجميع ‏النصارى بعيدا عن التقيد بشروحات أو أفهام القساوسة والرهبان.

‏3.‏ تاريخية الشريعة بمعنى ربط النص بالحادثة أو الواقعة التي جاء فيها، بما يعني إخراج الشريعة عن عمومها وشمولها، ‏وهو ما يعني في حقيقته نسخ الشريعة، وإذا لم يكن النسخ كاملا عند بعض هؤلاء، فعلى الأقل نسخ كل ما يتعارض من ‏الشريعة مع ما يعدونه من قيم التحضر والمعاصرة، انطلاقا من أن تلك النصوص المتروكة إنما هي نصوص تاريخية ليست عامة ‏أو شاملة، فصارت هذه القيم بمنزلة المحكم الذي يُقدَّم على غيره، وتحرف لأجله النصوص الواضحة المحكمة باسم التأويل.‏

حرب المنهج العلمي : وذلك من خلال :‏

‏1.‏ الاعتداد الزائد عن الحد بالعقل وتقديمه على النص، فإذا تعارض ما دل عليه الشرع مع ما دل عليه العقل، كان ‏ما دل عليه العقل هو المقدم، ‏

‏2.‏ تأسيس الأحكام على ما يتصور أنه مصلحة من غير مراعاة لأية قيود أو ضوابط سوى مجرد المصلحة.‏

‏3.‏ الخروج على الضوابط الشرعية والتفلت من الاتباع بدعوى التيسير، فأصبح لفظ التيسير هو الصخرة التي تحطم ‏بها الضوابط والقيود والحدود، وتخالف بها النصوص الصريحة في دلالاتها

حرب الرموز : ‏

أما الرموز فهي القيادات المتبعة للمنهج السلفي والداعية إليه والمقررة لأصوله، ويكون ذلك بالطعن فيها بنبزها ‏بالتحجر والانغلاق، وعدم معرفتها بالواقع، وعدم الانفتاح على قيم العصر، وأن هذه القيادات لم تعد مما يصلح في حقبة ‏العولمة التي تحول فيها العالم إلى بقعة كبيرة متجانسة متصلة ببعضها اتصالا وثيقا على رغم بعد المسافات بينها، ومحاولة حصر ‏المنهج في عدد من الأشخاص وكأنهم هم الذين حاؤوا به أو ابتدعوه، وليس هو منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، ‏فتراهم يحصرون المنهج السلفي في العصر الحديث في الشيح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قبل يحصرونه في ‏شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في حين أن هؤلاء الأعلام لم يكونوا أكثر من مقررين ‏لمنهج السلف، ناقلين له، وداعين إليه، فلم يكونوا منشئين له، والدليل على ذلك أنك تجدهم يستدلون على ما يقررونه ‏بكلام المتقدمين من أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتَّبَعين كأبي حنيفة ومالك والليث والشافعي وابن حنبل ‏والبخاري والطبري وابن عبد البر والآجري واللالكائي والهروي والدارمي وابن مندة، وغيرهم كثير ‏

ساحات العمل :‏

لقد بان أن على أصحاب المنهج السلفي أن يجاهدوا في ساحة عمليات واسعة، تشتمل على عدة جبهات كلها ‏مفتوحة في آن واحد، ولا شك أن تعدد الجبهات واتساعها من شأنه أن يضعف القوة المواجهة ويشتتها، كما قد يورث ‏نوعا من البلبلة والتداخل بل وربما التعارض أحيانا، وليس هناك من خيار في مواجهة تلك الجبهات جميعا، لكن قد يمكن ‏التأجيل بعض الوقت مع بعض الجبهات، وتقديم مواجهة الأخطر على الخطير إذا لم يمكن استيعاب الجبهات جميعا، كما ‏يمكن تقسيم العمل بحيث تتفرغ مجموعة لمواجهة طرف من أطراف الهجوم على المنهج السلفي، بينما تتفرغ مجموعة أخرى ‏لمواجهة طرف ثان وهكذا، ويتبين من هذا أن الساحة تتسع لكل فصائل التيار السلفي بالمشاركة دون المزاحمة، والجبهات ‏المفتوحة لمحاربة المنهج السلفي هي :جبهة الشيعة، جبهة الصوفية، جبهة تيار الحداثة بكل فصائله، جبهة الغلاة الذين يغالون ‏في المنهج السلفي، وفي المقابل لهم فئة المتخاذلين أمام جبروت الظالمين وكلهم يزعم اتباع المنهج السلفي، وهم رغم تناقضهم ‏الشديد إلا أنهم وجهان لعملة واحدة، هي البعد عن المنهج السلفي إما بالغلو فيه، وإما بالجفاء عنه.

التحديات التي تواجه الدعوة السلفية: هناك العديد من التحديات التي تعترض مسير الدعوة إلى المنهج السلفيي، والتي يمكن ‏النظر إليها من خلال جهة التحدي : فهناك تحديات دولية، وهناك تحديات محلية، كما أن هناك تحديات داخلية، نذكر منها ‏ما يلي :‏
التحديات الدولية : ‏

تتمثل التحديات الدولية في الحملة العالمية المعلنة على الإرهاب، والتي تحاول الربط ظلما وافتراء بين الإرهاب والمنهج ‏السلفي، فاتِّباع المنهج السلفي يعد في نظر أصحاب هذه الحملة من الإرهاب الذي ينبغي محاربته، ويعدون المنهج السلفي هو ‏منتج الإرهاب، ولا يستثنون من ذلك إلا ما يدعونه بأنه معتدل، والاعتدال عندهم ليس هو ما ينافي الغلو، ولكن الاعتدال ‏هو القبول بالقيم الغربية والدعوة إليها، أو عدم معارضتها، فأتْباع المنهج السلفي-عندهم-إما إرهابيون بالفعل، وإما ‏إرهابيون بالاستعداد، مما ترتب عليه ضغط الحكومات الغربية على كثير من الأنظمة الإسلامية للتضييق على الاتجاه السلفي ‏ومحاصرته، وذلك عن طريق إلغاء التعليم الديني أو التضييق عليه، وتقييد النشاط الدعوي السلفي،وتقليص الدعم المادي إلى ‏حدود متدنية، ولا يبعد عن ذلك تلك الهجمة الشرسة على المؤسسات الخيرية الإسلامية التي تقوم بالعمل الخيري بين ‏المسلمين، وهذا يؤثر بلا شك على الدعوة السلفية حيث يجعلها في دائرة الاتهام في نظر المخدوعين بهذه الحملة الظالمة، مما ‏يصد الكثير من المسلمين عنها.‏

وفي تقرير شيرلي بينارد الذي أعدته مؤسسة راند لمقاومة الإسلام في شخص المتمسكين به، قدَّمتْ عدة من ‏التوصيات لصانعي القرارات فمن ذلك :أن الصوفية تمثل تأويلا فكريا منفتحا للإسلام، ويجب أن يتم تشجيع التأثير الصوفي ‏بقوة في البلدان التي لديها تقاليد صوفية مثل العراق وأفغانستان، وذلك من خلال التأثير في مناهج التعليم وقيم المجتمع ‏وثقافته، حيث إن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وفلسفية تمثل جسرا للخروج من الاندماج الديني، ومن ‏ذلك يجب دعم الحداثيين في المقام الأول وذلك من خلال تغليب نظرتهم للإسلام..ويجب العناية بهم وتقديمهم إلى الرأي ‏العام على أنهم يمثلون الوجه المعاصر للإسلام، ومن ذلك تشجيع العلماء من أنصار الحداثة في تأليف الكتب وإعداد المناهج ‏الدراسية، ومنه الاستفادة من وسائل الإعلام الإقليمية للتعريف بأفكار وممارسات أنصار الحداثة المسلمين، ومن ذلك العمل ‏على تأهيل نماذج قيادية يقتدى بها، ومن ذلك مشاركة الغالبية من المسلمين من أنصار الحداثة في المناسبات السياسية ‏ليصبحوا حقيقة سكانية ماثلة للعيان ، إلى غير ذلك من التوصيات، التي تأخذ طريقها إلى التنفيذ في واقع المجتمعات ‏الإسلامية. ‏

التحديات المحلية :‏

وأما التحديات المحلية فكثيرة منها :سيطرة كثير من مروجي بضاعة الغرب الفكرية على مواقع التأثير، والذين يرون أن ‏في التمسك بالمنهج السلفي والمحافظة عليه خطرا يهدد سلامة المجتمع وأمنه وتآلفه، ولذلك يدعون إلى التخلي عن هذا المنهج ‏وتجاوزه، واستغلال واقع العالم المناوئ للمنهج السلفي في كسب أرض جديدة، والضغط على الأنظمة لابتزازها في التصدي ‏للدعوة السلفية،واستعداؤها عليها بزعم الخطورة على استقرارها، والتخويف بالعالم الغربي.‏

‏ ومن ذلك السماح للاتجاهات المنحرفة إسلاميا كالشيعة والصوفية وتيارات الحداثة في الدعوة إلى انحرافاتهم، ومن ‏ذلك تجاهل أصحاب الدعوة السلفية في كثير من المجتمعات، وإبعادهم عن مراكز التأثير، والحيلولة بينهم وبين المناصب العليا ‏في مؤسسات الدولة المهمة، وعدم إشراكهم في حركة التصحيح والإصلاح، بل حجبهم عن ذلك ومنعهم منها، مما يؤثر ‏على قدرتهم في إصلاح مجتمعاتهم ويحول بينهم وبين الانفتاح على شعوبهم.‏
‏ ومنه جهل كثير من الشعوب الإسلامية بحقيقة دين الإسلام، مما أدى إلى اختزال الإسلام على شموله وعمومه في ‏بعض أركانه عند فريق، وفي مستحباته عند فريق آخر، بل بلغ الاختزال إلى مجرد الانتساب إليه، فالإسلام عندهم هو ‏الانتساب إليه، ولو لم يقم بأيٍّ من فرائضه، وقد ترتب على هذا الاختزال أن انحرفت كثير من العقول عن جادة الطريق ‏وتعلقت بسفساف الأمور، ولا شك أن هذا الاختزال عند الكثيرين يجعلهم ينظرون إلى دعاة المنهج السلفي وكأنهم قد أتوا ‏بدعوة جديدة، وليس تجديدا لمفهوم الدين الصحيح.‏

‏ ومن التحديات الخطيرة التي يظهر أنها مرشحة بقوة في الفترة القادمة لمواجهة المنهج السلفي، الإغراء بلعبة الحل ‏الديمقراطي والانتخابات، مما قد يغري طائفة كبيرة من الناس بالتحول إلى ذلك الخيار خاصة مع التضييق على المنهج ‏السلفي، فيذهب الناس إليه على أنه متنفس لهم، يحاولون عن طريقه تحقيق ما يمكن تحقيقه، وإذا كان من الممكن تحقيق بعض ‏الإيجابيات من ورائه على المدى القصير، فإن سلوك هذا الطريق والتعويل عليه سيكون على المدى الطويل حائلا عن اجتماع ‏المسلمين على متابعة الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام، ولذلك فإننا نجد ضغطا غربيا على الدول العربية والإسلامية لفتح ‏هذا الباب حتى آخر مداه، ولا يكون ضغطهم هذا لخير الأمة فقد قال الله تعالى في وصف حالهم :" َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ ‏تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا ‏لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ"، والآيات في ذلك كثيرة، وإنما يضغطون لما يعود عليهم من النفع من وراء ذلك.‏

التحديات الداخلية :‏

وأما التحديات الداخلية فهي تتمثل في التحديات الآتية من داخل التيار السلفي نفسه، فمن ذلك :تقدير بعض ‏الفصائل لنفسها تقديرا زائدا عن الحد حتى لترى أنها الفرقة الناجية دون ما سواها من المسلمين، ومن ثم النظر لكل من ‏خالفها على أنها من الفرق المذمومة، ومن ذلك وسْم المنهج السلفي بسمات ضيقة مما يترتب عليه أن يُخرج كل فصيل من ‏المنهج السلفي الفصيل المغاير له في الفهم ولو في بعض القضايا الفقهية، ومنه اختزال العمل الدعوي كله في العناية ببعض ‏المسائل العلمية، وتحقيقها وشرحها والدعوة إليها.‏

ضوابط وآليات في المواجهة :‏

أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الأمناء على هذا الدين وهم من يقع على كاهلهم ‏أمانة تبليغه والمحافظة عليه، وهم الذين عناهم الرسول ‏صلى الله عليه وسلم بقوله :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ‏خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "‏ ، وهم المناط بهم مواجهة الخارجين عن هذه الشريعة أو الزائغين عنها، وهناك أمور ‏مهمة يحتاج إليها المسلم على الدوام في رد عادية المعتدي، فمن ذلك :‏

‏1.‏ الجهر بالحق والمفاصلة عليه مع من يبغضون الحق ويكرهونه، وعدم الضعف في ذلك أو التلون أمام ضغوط الإكراه ‏أو الإغواء، وقد الله تعالى لرسوله وهو في مكة :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ ‏تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس:104]، وقال له :"قُلْ يَا ‏أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" [الكافرون:2،1] وهو قول له ولكل من اتبعه وسار على منهاجه، ولكن ينبغي الحذر ‏من البغي أو الاستطالة على الآخرين.‏

‏2.‏ كشف المحاربين للدعوة السلفية والذين يتدثرون ببعض أرديتها، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، لكن من غير ‏أن يُظلم أحد أو يُتهم بغير بينة ودليل يرشد إلى ذلك.‏

‏3.‏ عدم الفتور في نشر المنهج السلفي وجمع الأمة عليه، والتماس كل طريق صالح يؤدي إلى ذلك، فإن الدعوة السلفية ‏دعوة للاجتماع على الحق قولا وعملا.‏

‏4.‏ تحديث وسائل الدعوة ومواجهة الخارجين على المنهج السلفي بأساليب ووسائل صحيحة مقبولة وفق قواعد المنهج ‏السلفي، مع عدم الانسياق وراء ما تروجه وسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين عن الخيار الديمقراطي. ‏

‏5.‏ الثبات على الحق وعدم المداهنة أو الخضوع والخنوع :من عوامل قوة المنهج السلفي الثبات على الحق، وفي أجواء ‏الحملة المضادة ربما يحاول بعضهم أن ينحني للعاصفة حتى لا تقتلعه، وإذا كانت قواعد السياسة الشرعية تسمح ‏للمسلم أن يؤخر الدعوة إلى أمر من الدين إذا علم أنه لا يقدر على ذلك، فيؤخره إلى حين التمكن، لكن لا ينبغي ‏له المداهنة والموافقة على بعض الباطل في مقابل أن يُسمح له ببعض الحق، فالسكوت عن التكلم بالحق إذا لم يكن ‏ذلك مقدورا أولى من النطق بالباطل وقد حذر القرآن من ذلك المسلك فقال تعالى :"وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" ‏‏[القلم:9] وقد بين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى معنى ذلك فقال :"ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في ‏دينك بإجابتك إياهم، إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك"‏ ، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى ‏‏:"ودوا لو ترفض بعض أمرك، فيرفضون بعض أمرهم"‏ ، فالمنهج السلفي يأبى الصيغ التوافقية التي يترتب عليها ‏الإقرار ببعض الحق بجانب بعض الباطل، أو التخلي عن بعض الحق في مقابل أن يتخلى أهل الباطل عن بعض ‏باطلهم، ونلحظ في هذا المجال في أيامنا هذه محاولة إدخال كثير من الألفاظ والتعابير وحشرها بعجرها وبجرها في ‏نسيج الأمة الثقافي من غير أي تمييز، وموافقة كثير من الناس على ذلك أو السكوت عليه، كما نلحظ اتهام من يميز ‏هذه الألفاظ ويبين ما فيها من الصواب وما فيها من الخطأ، فمن هذه الألفاظ التي غزت ثقافتنا التسامح أو الإخاء ‏الديني، والاعتراف بالآخر المختلف ثقافيا وعقديا، ونبذ التعصب والكراهية للآخر المختلف، والبحث عن المشترك ‏الإنساني والتعاون لخير الإنسانية، وفي المقابل نجد عملية تغييب مقصودة لكثير من المصطلحات الشرعية مثل الولاء ‏والبراء، ودار الحرب ودار الإسلام، وأحكام أهل الذمة.‏

‏6.‏ الصبر وعدم الضجر واستعجال النتائج :إن مشروعا ضخما كمشروع المنهج السلفي يحتاج إلى جهد ومثابرة ‏ومكابدة وطول زمان، والاستعجال يقوض العمل ويفسد النتائج، فالزلل يلازم المستعجل، لكن عدم الاستعجال لا ‏يعني التراخي والكسل، بل الجد والاجتهاد والحرص كلها أمور مطلوبة في ترسيخ هذا المشروع الكبير، وقد قال ‏نوح عليه السلام :"إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً وقال :"ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ ‏إِسْرَاراً" مما يبين حرصه الشديد وجهده المتواصل، وكذلك الأنبياء من بعده، وعلى رأسهم سيد البشر ‏ صلى الله عليه وسلم فلم ‏يستعجل إذ ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاما من غير استعجال النتائج، ولكن مع الجد والاجتهاد في الدعوة حيث ‏كان يلقى الناس في المواسم ويعرض عليهم دعوته، كما خرج من مكة إلى الطائف يدعو إلى ربه، فلم يكن عدم ‏الاستعجال مدعاة للتواني أو الخمول، وكان ‏ صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى عدم الاستعجال، فعندما قال له خباب رضي الله ‏تعالى عنه وهم يُضيق عليهم في مكة :ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا, قال لهم بعدما ذكر ما كان يلاقيه المسلمون ‏السابقون من أقوامهم :"والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو ‏الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"‏ ‏.‏

لكن هناك ضوابط لا بد مراعاتها في هذه المواجهة والتي منها :‏

‏1.‏ العدل والإنصاف، فلا يجور على المخالف، ولا يعاملهم بمثل ما يعملون من الكذب والغش والخيانة، قال الله ‏تعالى :"ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، والعدل والإنصاف مطلوب مع كل أحد سواء ‏كان من أهل السنة والجماعة، أو كان من أصحاب الفرق، أو كان من غير المسلمين، وأما من كان يفترى على أصحاب ‏المنهج السلفي فإن الله تعالى يرد كيده في نحره ويخذل المفترين قال الله تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن ‏رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " [الأعراف :152] فبين الله تعالى أن هذه العقوبة جزاء لكل مفتر. ‏

‏2.‏ اتباع الظاهر وعدم التنقيب عن البواطن، فإنه لا سبيل إلى الاطلاع على البواطن إلا للذي يعلم السر وأخفى، ‏لكن ينبغي مع هذا عدم الغفلة عن القرائن التي تنبئ عما وراءها، كما قال تعالى :" وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" [محمد :30]، وإذا كانت هذه القرائن لا تصلح لإصدار حكم على صاحبها، ‏لكنها تصلح للاحتراز والاحتراس منهم، وهو معنى ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه :"احترسوا من الناس بسوء الظن" ‏والحسن البصري ومطرف بن عبد الله من التابعين، وكذلك ما ورد في أمثال العرب من قول القائل :أخوك البكري فلا ‏تأمنه.‏

‏3.‏ عدم المبالغة أو الغلو في الأحكام :فمن المعروف أن أحكام الشريعة ليست كلها على وزان واحد، فمنها ما هو ‏معلوم من الدين بالضرورة، ومنها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه والخلاف ضعيف، ومنها ما هو مختلف فيه ‏والخلاف قوي، وكل نوع من هذه الأنواع له أحكامه المترتبة على وضعه، ولا ينبغي إنزال الجميع منزلة واحدة بحيث تعامل ‏المسائل المختلف فيها كما لو كانت مسائل إجماعية، ولا تعامل المسائل المشهورة كما لو كانت معلومة من الدين ‏بالضرورة، كما لا ينبغي حمل الناس على مذهب واحد في العلم والفتيا في المسائل الاجتهادية.‏

ويتبين مما تقدم أن أصحاب المنهج السلفي أهل السنة والجماعة بحاجة إلى وحدة الصف وعدم التنازع وتفريق الجهود، ‏والثبات على الحق ورفض المساومة عليه، والجد والاجتهاد واحتمال الأذى في العمل لهذا الدين، وبيان فساد الدعوات ‏المخالفة، وبيان ارتكانها على المشاريع الغربية الساعية لتقويض صرح هذا الدين، حتى يحذرهم الناس على دينهم ودنياهم، ‏والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

كتبه محمد بن شاكر الشريف

الأحد، 21 أبريل 2013

السلفية .. توضيحات وتنبيهات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

بدأ في الآونة الأخيرة يبرز مفهوم السلفية على الساحة وفي أوساط عدد غير قليل من المسلمين وأثار هذا المصطلح الكثير من الجدل، وتردد على الأسماع، وتساءل الكثير عنه، وأثيرت شبهات حول هذا المصطلح أو حول المنهج السلفي منهج أهل السنة والجماعة، فهل لهذا المفهوم أو المصطلح أصل في الشرعية؟ وهل ما يثار حوله من جدل أو شبهات لها أساس من الصحة.

في هذا الموضوع نريد أن نبين باختصار المفهوم الصحيح للسلفية والرد على أهم أو بعض ما ورد من شبهات حول هذا المنهج.

بادئ ذي بدء لو تأملنا حولنا من التجمعات البشرية وغيرها من أنواع المخلوقات من حيوان ونبات نجد أنه قد أطلق عليها ألقاباً وقد تميزت بشعارات تعرف به وخاصة الألقاب التي ترجع إلى وصف أو دين أو مذهب أو لون أو بلد أو قبيلة أو شعب من الشعوب.

فالألقاب والأنساب إلى الأديان والبلدان والمهن ظاهرة بشرية، المقصود منها التعارف، وأن أحكامها تختلف باختلاف مضمونها وموقف الدين منها، ولا يمكن أن نبني حكما صحيحا عن مصطلح قبل أن نتصور مفهومه وكما يقول علماء الأصول (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) (1)، فإذا أردنا أن نحكم على مذهب أو عقيدة أو لقب فلا بد أن نتصور مفهومه عند أهله أولاً، ثم ننظر في الكتاب والسنة لنلتمس حكم الله فيه من الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الندب أو الإباحة، فمثلاً إذا أردنا أن نصدر حكماً على المذهب الاشتراكي أو الشيوعي كمذهب إلحادي فلا بد من معرفة ماهيته، ثم ننظر في حكم الله فيه، وهكذا إذا أردنا أن نحكم على الخوارج مثلاً كمذهب يزعم أهله أنه إسلامي فلا بد من تصور مذهبهم، ثم الحكم عليه بما يستحقه شرعاً وهكذا سائر المذاهب والفرق، وكذلك السلفية التي هي موضوعنا.

فالسلفية في اللغة هي نسبة إلى السلف وهم (من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل) (2) و(السلف المتقدمون، وسلف الرجل: أبواه المتقدمان) (3).

أما في الاصطلاح فتدور كل التعريفات للسلف حول الصحابة، أو الصحابة والتابعين، أو الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الأعلام المشهود لهم بالإمامة والفضل واتباع الكتاب والسنة.

يقول القلشاني: (السلف الصالح، وهو الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، الحافظون لسنته، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وانتخبهم لإقامة دينه ورضيهم أئمة الأمة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده وأفرغوا في نصح الأمة ونفعهم، وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم، قد أثنى الله عليهم في كتابه.. فيجب اتباعهم فيما نقلوه، واقتفاء آثارهم فيما عملوه، والاستغفار لهم) (4).

ويقول الشيخ محمود خفاجي: (وليس هذا التحديد الزمني كافيا في ذلك، بل لابد أن يضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسنة وروحها، فمن خالف رأيه الكتاب والسنة فليس بسلفي وإن عاش بين أظهر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) (5).

ويقول الشيخ ابن حجر القطري: (وعلى ذلك فالمراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف، كالأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر أصحاب السنن دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج، والروافض، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة) (6).

فالسلف إذن مصطلح يطلق على الأئمة المتقدمين من أصحاب القرون الثلاثة الأولى المباركة، من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين المذكورين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) (7) فكل من التزم بعقائد وفقه وأصول هؤلاء الأئمة كان منسوباً إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان. وكل من خالفهم فليس منهم وإن عاش بين أظهرهم وجمعه بهم نفس المكان والزمان.

وكل من اتصف بهذا الوصف نفى عن نفسه أن يكون خارجياً يستحل دماء المسلمين بالمعصية أو أن يكون رافضيا يكفر الصحابة ويلعنهم أو متأولاً محرفاً لكلام الله تعالى أو قبوريا أو حلوليا أو اتحاديا أو متعصباً لإمام بعينه ولو خالف الدليل إلى غير ذلك من المعاني، إذن فهو مصطلح يقصد به تجديد الدين وإحياؤه لكي يعود غضاً طريا كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فهمه أصحابه رضي الله عنهم وهي كلمة يُقصد بها ببساطة تجريد التوحيد لله عز وجل وتصفيته مما علق به من شوائب البدع وتجريد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقصد بها تزكية النفوس وتطهيرها، ولا شك أن كل هذه المعاني تفرز مسلماً جاداً يعرف حدود الله عز وجل ويعظم شعائره ويقف حيث أوقفه الله يأتمر بامره وينتهي بنهيه.

فالسلفية إذن موجودة وضاربة بجذورها إلى جيل الصحابة بل إن السلفيين هم التدفق والامتداد الطبيعي لجماعة المسلمين الأولى فكل مولود يولد في الإسلام هو منسوب بالأصالة وبالجملة إلى هذا المنهج إلا إذا أعلن مفارقته وتميزه عن هذا المنهج؛ إما بأفكاره ومعتقداته أو سلوكه وأفعاله.

ومن العجب أن يعترض على هذا اللقب الشريف الذي يعمق صلتنا بسلفنا الصالحين الماضين، في حين تنتشر في كل اتجاه الفرق التي تحمل الألقاب المستهجنة شرعاً، وبعضها يرجع أصله إلى مذاهب إلحادية ولا نسمع حولها أي اعتراض أو استنكار.

والذي يتأمل هذا التعريف لا يجد مانعاً شرعيا يمنع من هذا اللقب لسلامة مدلوله من المحاذير الشرعية، بل ولتضمنه مقصداً من المقاصد الشرعية العظيمة ألا وهو أنه يفرض على أصحابه تصور هذا الدين كما كان في صورته الأولى، ورفض الزيادة عليه والنقص، وما أظن أن أحداً يعترض على هذا المقصد من حيث الجملة.

ولقد تسمى بعض المسلمين بالمهاجرين "لأنهم هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم" وبالأنصار "لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم" والتابعين "لأنهم اتبعوا السلف الصالح، فما هو الضير من أن تتسمى مجموعة من الدعاة إلى الله تعالى بالسلفيين" أي الذين يتبعون السلف الصالح، ثم إن هذا المصطلح لم يظهر على الساحة الإسلامية إلا بعد افتراق الأمة إلى فرق وأحزاب فهذا مسلم شيعي وهذا مسلم معتزلي وآخر مسلم أشعري إلى غير ذلك من المسميات التي يدعي أصحابها أنهم على منهج وفهم الصحابة لهذا الدين، فكان لابد من التميز باسم لإظهار الحق وبيانه للناس.

ولقد حصل الاتفاق على أمور ينبني عليها الكلام في صحة هذه النسبة من عدمها، وبيان ذلك أن المسلمين أو على الأقل الحركات الإسلامية متفقون على أن أحوال الأمة الإسلامية اليوم أحوال مزرية ومتدهورة في كل المناحي، وعلى أنها قد تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فنهبوا ثرواتها، وغيروا ثقافتها، وفرقوا صفوفها، وجمدوا نشاطها، وجعلوها في المؤخرة.

ومتفقون أيضاً على أن سبب ذلك هو البعد عن الدين، وأن هذا البعد يتمثل؛ إما في رفض التحاكم إلى هذا الدين، ورد مسائل النزاع إليه، واعتماد مصادر أخرى مغايرة، وإما إلى سوء فهم في تصورنا لقضايا متعددة منه، ومتفقون على أن الحل المخرج لنا مما نحن فيه هو التمسك بديننا، ورجوعنا إليه.

ومتفقون على أن الصحابة والتابعين هم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لتمثيل هذا الدين، وما منا من أحد إلا إذا أراد أن يشيد بأمجاد هذه الأمة، وتاريخها المشرق، وإنجازاتها الحضارية؛ فإنه لا يجد ما يقوله إذا لم يكن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، ومن سار على منهاجهم؛ موضع استشهاده وإشادته، فهم الصفحة المشرقة المحتوية على كل الأمثلة التي نفاخر بها الأمم سواءً من ناحية سلامة المعتقد والتصور والفكر الذي أقاموا به تلك الحضارة وشادوا عليه بنيانها، أو من ناحية العدل وقيم التعامل مع مختلف الأمم التي وجدت نفسها تحت حكمه وقيادته.

وبعد هذا الاتفاق على أحوال الأمة، وعلى ضرورة الرجوع إلى الدين، واعتباره العنصر الرئيس في إحيائها؛ فقد قام كل فريق من هذه الأمة -من المهتمين بالدعوة إلى الله- بما يراه واجباً في دعوته لأمته، وأخذه بيدها لإرجاعها إلى دينها.

فمنهم من يرى أن المنهج الواجب الاتباع هو ما عليه الموروث الصوفي من الاستنجاد بالموتى، والاستغاثة بهم، والاشتغال بإحياء الموالد والأناشيد الدينية، وإحياء طرائق الفرق الصوفية السلوكية كالشاذلية، والرفاعية، والقادرية وغيرها، والدعوة إلى التقليد المذهبي والجمود الفقهي وغير ذلك، مدعين أن الحل لما تعيشه الأمة من الناحية الفكرية والسلوكية هو هذا المنهج الذي هم عليه، وأن هذا هو الدين الذي أمرنا الله باتباعه واعتناقه.. فإذا عرضنا هذه المنطلقات على ما كان عليه الصحابة فإننا لا نجدها في سلوكياتهم وعباداتهم وأعمالهم، بل نجد أحوالهم ضد هذه الأوضاع والطرائق.

وفريق آخر يرى أن الدين هو ما قاله الأئمة المعصومون -في زعمهم- وما فهموه منه وهو مذهب يقوم على تقديس أهل البيت، وطلب الشفاعة منهم، والاستغاثة بهم في الملمات، وقد وصفوهم وصفاً يخرجهم عن الطبيعة البشرية، ويقوم دينهم هذا على الطعن في الصحابة، وتكفير معظمهم، ويقومون بأعمال جاهلية تشوه جمال الإسلام وصفائه مثل: ضربهم لأنفسهم بالسلاسل، وتفجير الدماء من مواضع عديدة من أجسامهم ورؤوس أطفالهم؛ متقربين إلى الله بذلك، زاعمين أن هذا هو دين الله الحق الذي تجب دعوة الأمم إليه.

ومعلوم براءة الدين الإسلامي، وبراءة السلف الصالح -وعلى رأسهم علي رضي الله عنه، وعن أهل بيته- من هذه الأوضاع.

وأتى فريق آخر فزعم أن الدعوة إلى الله والرجوع إليه يكمن في سلوك المناهج الفلسفية، والطرائق الكلامية، والمحارات العقلية في الدفاع عن العقائد الدينية، والأحكام الشرعية، أمام الهجمات الفكرية الصليبية والاستشراقية، وأن النصوص الشرعية لا تكفي في هذا الباب، لأن القضية عقلية، والنصوص الشرعية مساعدة فقط لا يعتمد عليها، ولا تنفرد بالتأصيل لهذه القضايا، وأعادوا دعوة أسلافهم إلى تلك المناهج ممن أطلق عليهم لقب أهل الكلام مع علمهم بمخالفة السلف الصالح لها، وتحذيرهم منها.

وفريق آخر أذهلته الحضارة الغربية بوسائلها المادية، وطرائقها السياسية والاجتماعية، ومظاهرها المدنية، بل ومناهجها الفكرية؛ فصار مجنوناً بها يهذي في كل الأوقات بالإشادة بها، داعياً إليها، ساعياً إلى التوفيق بينها وبين خصائص الحضارة الإسلامية بطرق ملتوية، وتأويلات فاسدة، متألماً من تخلف الأمة عن ذلك الركب، وصار يركب الصعب والذلول في طرق التوفيق، فأتى بما أضحك منه العقلاء.

هذا بالإضافة إلى التوجهات الأخرى مثل: مناهج الأحزاب العلمانية القومية منها والوطنية، والديمقراطية منها والاشتراكية، والتي تشعبت بها السبل، وتفرقت بها الطرق، فلم تزد الأمة إلا خبالاً، ولم تجن الأمة منها إلا مزيداً من التفرق والتشرذم، والعداء والتربص بعضها ببعض.

فأمام هذه التوجهات برمتها فما ذنب من يتبنى في دعوته لأمته الإسلامية طريقة سلفها الصالح في الاعتقادات والعبادات والسلوك، وطرائق التفكير والحكم على الأشياء، معتمداً على كتاب الله وسنة رسوله، رافضاً الاقتداء بماركس ولينين وإنجلز وغيرهم من مفكري اليهود والنصارى قديماً وحديثاً، داعياً أمته إلى التمسك بهذا الدين في العقيدة والشريعة، ففي زمن غربة الإسلام وكثرة المذاهب والفرق المضللة يحتاج المسلمون للتميز بصفة أخص من صفة الإسلام لا تتعارض مع الإسلام؛ لأننا جميعا يضمنا اسم الإسلام وراية الكتاب والسنة لكن التحقق بذلك في وسط هذا الكم الهائل من الفرق الضالة المنحرفة يدعونا أن نقول نحن مسلمون على منهج السلف الصالح أو منهج أهل السنة والجماعة.

ولا يمنعنا ذلك الاقتباسُ من هذه الحضارات من العلوم الإدارية، والاستفادة من تكنولوجيا العلوم المختلفة، والثورات المعلوماتية، والسباق في الإحاطة بهذه العلوم، والمشاركة في الإبداع فيها، والإتيان بجديدها العربي والإسلامي؛ لأن هذه العلوم الآلية لا تختلف باختلاف الثقافات والأديان والعقائد.

وإذا تم لنا ذلك فنحن لا نجعل اسم السلفية "شعاراً بديلاً عن الإسلام بل السلفية بالنسبة للإسلام هي الفهم الصحيح له فقط فلا تعارض بين الإسلام والسلفية.

لكن ثمة أمور ينبغي التنبيه عليها وهي:

أولاً: ينبغي أن يعلم أصحاب المنهج السلفي أن ولاؤهم للحق وحده؛ فلا يتعصبون لأسماء أو شعارات أو تجمعات أو زعامات فهم لا يتعصبون إلا للإسلام وحده ويوالون ويعادون على أساس الدين والتقوى ومن هذا المنطلق فإنهم ينظرون إلى كل فرد أو طائفة أو تجمع على هذا الأساس وحده وليس على أساس التعصب الجاهلي للقبيلة أو المدينة أو المذهب أو الطريقة أو التجمع أو الزعامة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف... فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان. ومن كان كافرا وجبت معاداته من أي صنف كان... ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة) (8).

ويقول: (بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان) (9) ويقول أيضاً: (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة، وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا) (10).

ثانياً: ينبغي أن تراجع السلفية أنفسها وصفوفها؛ لأنه قد يختطف السلفية بعض الأدعياء وقد توجد منهم أحداث شاذة يقوم بها مغامرون أو يقوم بها جهلاء أو سفهاء تؤدي إلى تشويه المنهج أو على أقل الأحوال تشويه صورة القائمين على المنهج السلفي، ومثل هذه المواقف لا تمثل السلفية في شيء وليست من دين الله تعالى في شيء.

ثالثاً: على أصحاب المنهج السلفي أن يحذروا حمية الجاهلية بأن نتصور أن كل من انتسب إلى المنهج السلفي أصبح فوق الناس أو أعلمهم فهذه النظرة هي التي تحدث الانشقاقات والاختناقات والفرقة بين العاملين للإسلام من جهة وبين أصحاب المنهج السلفي وبقية المسلمين من جهة أخرى، والذي يجب علينا هو أن نحكم على الناس باتباعهم للكتاب والسنة لا لانتمائهم لدعوتك أو جماعتك؛ فالمنهج هو الميزان الذي نوزن جميعا به ونتحاكم إليه.

رابعاً: ينبغي على أصحاب المنهج السلفي من استفاضة البلاغ والدعوة إلى الله تعالى بالحسنى؛ لأن الكلمة هي الخط الأصلي الساخن للتواصل بين أصحاب المنهج السلفي والمدعوين لاسيما عندما تقف السلطة السياسية أو وسائل الإعلام حائلاً بين أصحاب المنهج الصحيح لدين الله وبين من يدعونهم؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا ويتم ذلك بصور مختلفة سواء كان ذلك في الدروس أو المحاضرات أو على المنابر التي نصل من خلالها إلى الناس.

خامساً: أصحاب المنهج السلفي من أجل صفاتهم أنهم خير الناس للناس فهم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولاشك أن من أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن أخلاق النبوة -من الرحمة ومحبة الخير للناس واحتمال أذاهم والصبر على دعوتهم إلى غير ذلك- هي المنبع الذي يستقي منه أصحاب المنهج السلفي خصائصهم السلوكية والأخلاقية والتي لا تقل أهمية في منظور الحق عن ميراث العلم والهدي ولذلك لابد لأصحاب هذا المنهج من أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، وأن يشاركوا الناس همومهم وأوجاعهم اليومية والمسلم الذي يبتلى بمشكلة إن لم يشعر أن أصحاب هذا المنهج بجواره في مشكلته فلن ينشرح صدره ولن ينفتح قلبه ولن يستمع إليهم، ولا شك أن مما يفتح مغاليق القلوب مشاركة أصحاب المنهج السلفي الناس في تخفيف آلامهم وأوجاعهم.

سادساً -وأخيراً-: ينبغي أن نفرق بين السلفية أو المنهج السلفي وبين السلفيين؛ فالسلفيون بشر من البشر يصيبون ويخطئون غير معصومين يطرأ على أحدهم الخطأ وإن كان من الأئمة الأعلام الذي يشار إليهم بالبنان، أما المنهج أما الدين فهو فوق الجميع لا يعتريه الخطأ.
كتبه عصام خضر
---------
الهوامش:

1- انظر: شرح الكوكب المنير 1/50.

2- لسان العرب ج 9 ص 158.

3- تحرير المقالة من شرح الرسالة ص 36 نقلا عن (المفسرون بين التأويل والإثبات) للمغراوي ج 1 ص 18.

4- المصدر السابق.

5- العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة ص 21.

6- العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية نقلاً عن (المفسرون بين التأويل والإثبات) للمغراوي ج 1 ص 19-20.

7- أخرجه البخاري رقم 2509.

8- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 28ص 227- 229.

9- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 3 ص 416.

10- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 28 ص 209.
--------
المراجع:

1- أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى جمع وإعداد محمد عبد الهادي المصري.

2- حوار للشيخ عبد المجيد الريمي مع صحيفة الرشد اليمنية.

3- السلفية إصلاح مفاهيم ورد شبهات للشيخ صلاح الصاوي حوار أجراه خالد عبدالله بقناة الناس.

الجمعة، 19 أبريل 2013

السلفيون والدعوة إلى الله


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله -عز وجل- من أجلِّ العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه -سبحانه وتعالى-؛ لأنها نشر دين الله والمحافظة عليه، والذب عنه، ولأنها إبلاغ رسالة الله إلى عباده، ولأن الدعاة واسطة بين الحق والخلق في إبلاغ الرسالة التي جاء بها الأنبياء.
والدعاة هم الذين يبينون عن الله مراده، وهم الذين يفتح الله بهم الأذان الصُّمَّ والقلوب الغلف، ويزيل الله بهم الغشاوة عن أعين الناس، وبهم يتحول الظلام إلى نور، والضلال إلى هدى، وبهم يكشف الطريق السوي المستقيم، فهم دعاة إلى فضل الله ورحمته وإلى جنته، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة، وهم القائمون بوظائف الأنبياء، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). 
والدعوة عبادة أمر الله -تعالى- بها، فقال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، وعلق الله -سبحانه وتعالى- الفلاح عليها، فقال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
فجعل الله -سبحانه وتعالى- الخير في الأمة حال كونها قائمة بهذه الدعوة، وقال -تعالى-: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:114)، فوصف الله القائمين بالدعوة بالصلاح، وقال الله -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:114)، فجعل الله خير الكلام ما كان أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر.
ولقد لعن الله -تعالى- بنى إسرائيل؛ لتركهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، فقال -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).
ولقد بيَّن الله -تعالى- أنه يكتب النجاة في الدنيا والآخرة للقائمين بهذا الواجب، فقال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165).
كما جعل الله فضله ورحمته للقائمين بهذا الأمر فقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
كما بيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- أنه سيجعل التمكين في الأرض للقائمين بهذا الواجب، فقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ولقد ورد بيان فضل الدعوة والدعاة في مواطن كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك: قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)، ومن ذلك: ما رواه مسلم -أيضًا- عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى؛ كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ؛ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا وروى البخاري ومسلم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعلي -رضي الله عنه-: (فَوَاللهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)، وروى الترمذي من حديث أبى أمامة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ).
وقد حذر الله -سبحانه- من التقصير في أمر الدعوة، فقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة:159)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187)، فقال قتادة: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ممن علم شيئًا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم؛ فإنه هلكة!"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) (رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه).
والدعوة إلى الله هي: تعريف الناس بربهم بأسمائه وصفاته، وكيفية الوصول إليه -سبحانه- وما لهم، وما عليهم إذا رجعوا إليه. أو هي: حداء بالناس لمعرفة الله والإيمان به وتوحيده ربًّا خالقًا ومالكًا، وإلهًا معبودًا، وحاكماً فردًا، فلا منازع له في ربوبيته، ولا شريك له في المحبة، ولا مضاد له في حاكميته، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
والدعوة -أيضًا- هي: قيام المسلم ذي الأهلية في العلم والدين بتبصير الناس بأمور دينهم، وحثهم على الخير، وإنقاذهم من شر واقع، وتحذيرهم من سوء متوقع على قدر الطاقة؛ ليفوز بسعادة العاجل والأجل.
وتتميز الدعوة السلفية بأنها دعوة ربانية؛ لأنها تعتمد على أصلين أساسين هما: التوحيد والاتباع.
وهذا ما يجعلها دعوة ربانية في الغاية والوجهة، وربانية في المنهج والمصدر، فأما:
1- ربانية الغاية والوجهة:
فإن الغاية والهدف هو: حسن الصلة بالله، والحصول على مرضاته، وهذه هي غاية الإنسان ووجهته، ومنتهى أمله وسعيه، فهذا هدف الأهداف وغاية الغايات، وإن كان هناك أهداف أخرى إلا أنها تابعة لهذا الهدف الأكبر، والقرآن يقرر هذه الحقيقة بوضوح حين يذكر الغاية من خلق الجن والأنس، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات:57)، وقد أمر الله -تعالى- نبيه أن يعلنها للناس واضحة جلية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين . قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:161-164)، والغاية -إذًا- من وجود الإنسان أن يعبد الله، فينبغي أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده بأن يجعل الله غايته، فلا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئًا.
ومن ثمرات ربانية الغاية والوجهة: أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، فلا يعيش في عمايته، ولا يمشى إلى غير غايته، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره واستبانة لمصيره بعد أن عرف الله وأقر له بالوحدانية.
ومن فوائدها: أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها والتي تتطلب الإيمان بالله.
ومن فوائدها: حصول الأمن والاهتداء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
ومن فوائدها: أنها تؤمن النفس من التمزق والصراع والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات؛ لأن الإسلام جعل غاية الإنسان غاية واحدة، وهي: إرضاء الله -تعالى-، وجعل همومه همًّا واحدًّا، وهو: العمل على ما يرضيه -سبحانه-، ولا يريح النفس شيء مثل وحدة الغاية والوجهة، ولا يشقي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته، قال -تعالى- عن نبيه يوسف -عليه السلام-: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39).
2- ربانية المنهج والمصدر:
هو أن يكون المنهج من عند الله -سبحانه وتعالى-، فلا تصدر عن شيء إلا جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس -الذي لا يتعارض مع نص أو أجماع-.
وهذا يقتضي: ألا نعارض القرآن والسنة بعقل، أو رأي، أو قياس، أو ذوق، أو وجد، أو مكاشفات.
وكذلك يقتضي: رفض التأويل الكلامي الذي يصرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل.
كما يقتضي: أن نأخذ بظاهر النصوص وما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحف بها من القرائن، وهو: إجراء للنصوص على ظاهرها بدون تحريف.
كما أن هذا المنهج الرباني يقوم على فهم الكتاب والسنة بفهم أعلم الناس بالكتاب والسنة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما تقتضي هذه الربانية: أن لا يكون هناك معصوم إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم.
كما تقتضي هذه الربانية: رفض البدع ومحدثات الأمور في كل صورها وأشكالها، سواء كانت في العبادة أو العقيدة، أو كانت أصلية أو إضافية.
كما تقتضي: ذم التقليد والتعصب المذهبي.
وهذه الدعوة تتسم بأنها دعوة عامة لجميع البشر على اختلاف أشكالهم وأجناسهم وألوانهم، ولغاتهم وعاداتهم وآرائهم، وليست خاصة بأمة دون أمة، كما أن منهجها منهج لكل العصور من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل النسخ ولا الإلغاء ولا التغيير ولا التعديل ولا الإيقاف، ولا التعطيل لظرف من الظروف.
كما أنها دعوة شاملة لكل مناحي الحياة، منظمة لعلاقة الإنسان ربه من الناحيتين: العلمية والعملية، وهى دعوة شاملة لقضايا العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والقيم والمثل العليا، وأسس التعاون والاجتماع على البر والتقوى، كما أنها شاملة لقواعد التربية القويمة، وتنمية روح المراقبة للنفس، وهو منهج يتميز بآلية رفع الحرج.
وينطلق هذا المنهج من كون الدعوة عبادة لله لا بد من تحقيقها والصبر عليها والمثابرة، وبذل الجهد الممكن والمستطاع، وهي تسعى إلى تحقيق أهداف في الأمة والمجتمعات، وهي:
1- تحقيق مرضات الله -عز وجل-.
2- تعبيد الناس لله -عز وجل-.
3- إبلاغ الحق إلى الخلق.
4- حماية الدين.
5- إقامة الحجة على الخلق، وقطع العذر على المخالفين.
6- الإعذار إلى الله -عز وجل- بأداء الأمانة.
7- إصلاح البلاد والعباد.
8- نشر السنة، ومحاربة البدع.

كتبه/ محمود عبد الحميد