الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

الأصول العلمية للدعوة السلفية

للدعوة السلفية ثلاثة أصول تقوم عليها :توحيد ,اتباع , تزكية
أولاً: التوحيد
الأصل الأول من أصول الدعوة السلفية هو التوحيد. ولا يعني هذا الأصل ما يؤمن به وما يفهمه كثير من الناس من معنى التوحيد، وهو أنه لا خالق إلا الله، بل يفهم السلفي ويعلم من معاني التوحيد أصولاً عظيمة، وقضايا كبيرة، الإخلال بقضية منها إشراك بالله تعالى، أو إلحاد في أسمائه.
وكثير من المسلمين يجهل كثيراً من هذه الأصول والقضايا، فيقع في الشرك، ويظن نفسه مؤمناً موحداً، والحال أنه إما أن يكون ملحداً في صفات الله وأسمائه مؤمناً بها على وجه آخر، أو مشركاً عابداً لغير الله سبحانه وتعالى.
وأصول التوحيد في المعتقد السلفي كما يلي:
أولاً: الإيمان بصفات الله سبحانه وأسمائه على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى دون تحريف أو تأويل.
فالله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه في آيات كثيرة جداً، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة جداً، مدونة في كتب السنة؛ كالبخاري، ومسلم، و "مسند" الأمام أحمد، وغير ذلك؛ مما هو صحيح ثابت حسب قواعد أهل مصطلح الحديث.
وما أخبرنا الله بذلك عن نفسه؛ إلا لنصدق ونؤمن.
بل الأيمان بصفات الله سبحانه وتعالى هو أكبر قضية من قضايا العبادة والأيمان؛ كما جاء في الحديث: أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، وليس فيها إلا صفة الله سبحانه وتعالى.
والمحرفون المؤولون عمدوا إلى هذه الآيات، فحجبوا نورها عن المسلمين:
فإما أن يقولوا: هي آيات متشابهة، لا نخوض في معناها، ونؤمن بها كما جاءت؛ يعنون: أنه لا يجوز للمؤمن أن يفهم من معناها شيئاً، فيكون عند ذلك {وجاء ربك والملك صفا صفا}، كقوله تعالى: {الم}، {كهيعص}، فكما أننا لا نفهم معنى محددا من هذه الحروف المقطعة؛ فآيات الصفات عندهم كذلك.
وبذلك حجبوا نور هذه الآيات أن ينفذ إلى قلوب المؤمنين، وأن يستشعر المسلم عظمة الله كما يليق بجلاله وعلو شأنه وذاته.
وبذلك فرغوا التوحيد من أعظم قضاياه، وهو الإيمان بصفات الله جل وعلا.
وهل الإيمان إلا امتلاء القلب بنور صفات الله وإشراقه بمعرفة إلهه ومولاه؟!
ومع ذلك؛ فقد زعموا -وخاب زعمهم- أن هذا الإيمان الأبله هو معتقد السلف، وحاشاهم، بل هم آمنوا بآيات الصفات وفق معناها الذي نزلت به باللغة العربية، مؤمنين أن الله جلت قدرته وعظمته لا يقدر قدره على الحقيقة إلا هو سبحانه وتعالى.
وإما أن هؤلاء المؤولين يعمدون إلى آيات الصفات، فيحرفونها؛ زاعمين أنه تأويل! فيؤولون مجيء الله يوم القيامة بمجيء أمره، واستواءه على عرشه باستيلائه عليه، ويده بقدرته، ووجهه سبحانه وتعالى بذاته..
ولا يؤمنون بذات فوق العرش، وإنما يقولون: ليس ثم عرش، وإنما العرش الملك، وليس لله مكان، فليس هو في مكان، بل إما أن يقولوا: لا مكان له في شيء من العالم، بل ولا خارجه.
ولذلك لا يجوز عندهم أن يقول مؤمن: ربي في السماء. فإنهم يبدعونه، وقد يكفرونه.
ويأتون إلى الأحاديث التي تذكر فيه صفة الله؛ كـ [ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة]، فيسبون من يصدق ذلك بأقبح السباب، ويقولون: بل تنزل رحمته، وأما هو سبحانه وتعالى؛ فلا ينزل ولا يصعد؛ لأنه ليس فوق العرش شيء، بل ما ثم هناك عرش.
وينفون عن الله سبحانه وتعالى كلامه، ويزعمون أن الله إذا أراد أن يكلم أحداً؛ خلق فيه الفهم لمراده، فيكون كلام الله عندهم؛ كالنفث في الروع، وبذلك يكذبون أحاديث البخاري التي جاء فيها أن الله يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كمن بعد؛ قائلاً: [أنا الملك! أين ملوك الأرض؟] (رواه البخاري). 

ثانياً: إفراد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة.
وعندما نقول: إفراده بالعبادة؛ فلا نعني الصلاة والزكاة والصوم والحج فقط، بل نعني كل ما يندرج تحت هذه اللفظة من معانيها، وعلى رأس ذلك الدعاء.
فالدعاء هو العبادة، فلا دعاء لغير الله كائناً من كان؛ رسولاً أو ولياً حقاً أو ولياً مزعوماً.
ويأتي بعد الدعاء: السجود، وأنواع من الحب، والتعظيم، والخشية، والخوف، وكذلك الذبح والنذر، والرغبة.
وكل هذه الأمور من حق الله سبحانه وتعالى، وقد صرفها كلها أو بعضها كثير من الناس لغير الله، ويكفيك زيارة واحدة لقبر من القبور المشيدة حتى تشاهد كل ذلك الطلب الصريح من صاحب القبر بكل ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ كشفاء المرضى والانتصار من الأعداء، والشفاعة عند الله، والمدد، وإعطاء الأولاد، وخير الدنيا..
وبالجملة؛ فإنه يطلب من هؤلاء الأموات خيري الدنيا والآخرة، وهذا شرك أكبر، مخرج من ملة الإسلام.
ويفعل هذا طوائف كثيرة ينسبون إلى الإسلام!
ولا يكتفون بالدعاء، بل ويذبحون لهؤلاء تقربا؛ كما كانت الجاهلية تفعل عند طواغيتها، وينذرون لهم، بل ويطوفون بالقبور كما يطاف بالكعبة، ويسجدون عندها كما يسجد لله، وليس هناك شرك أكبر من هذا.
وهذه الأمور لا يصنعها عوام الناس وجهلاؤهم فقط، بل ويصنعها كثيرون ممن يزعمون العلم الشرعي، ويحملون فيه شهادات عريضة، وكذلك من يزعمون التقوى والصلاح من أهل الطرق الصوفية والمناهج العبادية المبتدعة، ولا تجد دينهم ينبني إلا على تعظيم هذه القبور وبنائها وإسراجها ودعوة الناس إلى الذبح لها والنذر لها ودعائها من دون الله عز وجل، بل والطواف بها.
وقد أصبح الله عند هؤلاء نسياً منسياً؛ لا يدعى ولا يرجى إلا بواسطة هذه القبور والأضرحة، ويظنون بعد ذلك أنهم مسلمون، وما هم بمسلمين، وقد شابهوا المشركين الذين عبدوا غير الله وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3).
والدعوة السلفية تجعل نصب عينها تطهير معتقد الناس من هذا الشرك الظاهر الجلي، الذي لا يماري فيه إلا مشرك، ولا يكابر فيه أو يدافع عنه إلا مطموس القلب، بعيد عن نور التوحيد والإيمان.
ثالثاً: الإيمان بأن لله وحده سبحانه وتعالى وليس لأحد سواء حق التشريع للبشر في شؤون دنياهم.
كما قال جل وعلا: {والله يحكم لا معقب لحكمه} (الرعد:41).
وكما قال سبحانه: {إن الحكم إلا لله} (الأنعام:57).
فالتشريع حق للرب جل وعلا؛ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين والمنهج والطريق والصبغة هو ما شرعه الرب جل وعلا.
واعتداء سلاطين الأرض وملوكها ورؤسائها على شرعة الله؛ بتحليل ما حرم، وتحريم ما أحل: عدوان على التوحيد، وشرك بالله، ومنازعة له في حقه وسلطانه جل وعلا.
وأكثر سلاطين الأرض اليوم وزعماؤها قد تجرؤوا على هذا الحق، وتجرؤوا على الخالق الملك سبحانه وتعالى، فأحلوا ما حرم، وحرموا ما أحل، وشرعوا للناس بغير شرعه؛ زاعمين تارة أن تشريعه لا يوافق العصر والزمن، وتارة أنه لا يحقق العدل والمساواة والحرية، وأخرى بأنه لا يحقق العزة والسيادة.
والشهادة لهؤلاء الظالمين بالإيمان عدوان على الإيمان وكفر بالله سبحانه وتعالى.
ونأسف إن قلنا: إن سواداً كبيراً من الناس قد أطاعوا كبراءهم فيما شرعوا لهم من شرع مخالف لشرعه سبحانه وتعالى، وكثير من هذا السواد يصلي ويصوم -مع ذلك- ويزعم أنه من المسلمين.
والدعوة السلفية جهاد بكل معاني الجهاد؛ لرد الحق إلى نصابه، وجعل الدين لله وحده، وتخليص الأمة من هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي استشرى فيها، وذلك لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا تكون كذلك في واقع الناس؛ إلا إذا كان الحكم لله وحده، والتشريع لله وحده؛ وفق ما جاء في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووفق ما يجتهد فيه أئمة العصر من المسلمين؛ ليتوصلوا باجتهادهم إلى ما يرضي ربهم، ويوافق شرعته.
وتخليص الأمة من هذا الشرك بالبيان والدعوة والجهاد واجب؛ لأن هذه القضية إحدى قضايا المعتقد السلفي.
رابعاً: نؤمن في المنهج السلفي أن قضايا التوحيد الثلاثة السالفة قضايا لا تتجزأ ولا تقبل المساومة؛ لأنها أركان في فهم العقيدة السليمة وفي معنى لا إله إلا الله.
فمن آمن بإله واحد؛ يجب أن يعتقد أنه هو الموصوف سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب الإيمان به وفق هذه الصفات.
وكذلك يجب دعاؤه سبحانه وتعالى وحده، وإفراده بسائر أصناف العبادة؛ من ذبح، ونذر، وخوف، وخشية، وإنابة، وتوكل، وحلف، وتعظيم، وتطهير القلب مما يخدش هذا التوحيد أو يلغيه.
وكذلك يجب الإيمان والعمل لتكون كلمته وشرعه هو الأعلى وهو المحكم في حياة الناس جميعها؛ فلا دين إلا ما شرع، ولا طاعة إلا لله أو ما يقتضي أن تكون طاعة الله؛ أعني: لا طاعة لمخلوق إلا بما يوفق طاعته سبحانه، فإن خالف طاعته؛ فلا طاعة.
والمنهج السلفي يأخذ هذه القضايا جملة، ويطهر قلوب أتباعه من الشرك فيها جميعاً؛ لأننا نعتقد أن من مات وهو يدعو غير الله؛ لم يكن من أهل الجنة، ونعتقد أيضا أن بعض التحريف لمعاني الصفات والأسماء؛ شرك بالله وكفر به، وإن كان بعضه لا يبلغ ذلك، ونعتقد كذلك أن من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر، ومن اعتقد أن لأحد من البشر أن يشرع للناس في شؤون معاشهم ودنياهم دون الرجوع إلى شرع الله والالتزام به والسير بمقتضاه؛ فقد عبد غير الله وأشرك به شركاً جلياً؛ كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} (النساء:65).
هذه القضايا الثلاث السالفة هي الأركان التي يقوم عليها الأصل الأول من الأصول العلمية للدعوة السلفية.
إنها قضايا التوحيد الثلاثة التي إذا اختل شرط منها؛ اختل أصل التوحيد.
وهذا الأصل هو بمثابة المدخل للمعتقد السلفي؛ لأن التوحيد هو أهم قضايا الدين، بل رأسه، وبدونه لا يكون المسلم مسلماً.
وتحت القضايا السالفة توجد كثير من الفرعيات والتفصيلات، قد بينا بعضها في مواضع أخرى، وقد فصلها علماء السلف عبر القرون في كتبهم.
والسائر في المنهج السلفي يجعل نصب عينه دائما تعلم هذه الفرعيات؛ تكميلاً لتوحيده، وتثبيتاً لإيمانه.
وبهذا الأصل يفترق المنهج السلفي عن كثير من مناهج الإصلاح المنسوبة للإسلام، التي لا تدخل هذه القضايا في حسبانها، ولذلك نجد أن كثيرا منهم يفنون أعمارهم في قضايا فرعية عملية، وفي خلافات جزئية، وينسون أصل الدين الأصيل، وهو التوحيد الخالص الذي ما جاء الشرع إلا لأجله.
وأمثال هؤلاء لا يعنون من الشرك إلا عبادة المسيح والأصنام، وأما تلك الصور التي عرضناها عليك آنفاً؛ فإنهم لا ينكرونها، بل يباركونها ويوافقون أصحابها، وإن حصل لها عند بعضهم إنكار؛ فإنما هو كإنكار بدعة يسيرة لا تضر عندهم بالدين، والحال أنها أصل من أصول التوحيد، وتفويتها قدح في العقيدة والإسلام.
وقد يسأل سائل: لماذا تهتمون بالتوحيد هكذا وتجعلونه الأصل الأول من أصول الدعوة السلفي؟
والجواب على هذا السؤال يأتيك مفصلا بحمد الله في الباب الأخير من هذه الرسالة: (السلفية دعوة التوحيد).
ثانياً: الاتباع
بعد أن يعلم السائر في المنهج السلفي توحيد الله سبحانه وتعالى حسب أركانه السالفة؛ فإنه يتوجب عليه إفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالاتباع، وذلك تحقيقاً لقوله: "أشهد أن محمداً رسول الله".
وهذه الشهادة لا تكون كاملة إلا بالأمور الآتية:
أولا: أن يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول مبلغ عن ربه جل وعلا، وأنه قد جاء بوحيين: الأول كتاب الله القرآن. الثاني: سنته صلى الله عليه وسلم.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه] (رواه أبو داود وغيره بسند صحيح).
فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل كلام الله تعالى؛ سواء في الاعتقاد والعمل والقبول؛ لأن هذا وهذا من الله سبحانه وتعالى، والرسول لا يأمر ولا ينهى ولا يحرم ولا يحل في أمور الدين بشيء من عند نفسه، بل بأمر الله سبحانه وتعالى، ولا يخبر بشيء من الغيب إلا بوحي منه جل وعلا؛ كما قال سبحانه وتعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة:44-47).
وإذا كان أمر السنة كذلك؛ فإنه يشملها جميع أحكام التكليف؛ من: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح، ويكون من رد الثابت الصحيح منها؛ كمن رد القرآن.
ثانياً: الدين هو المنهج والطريق والحكم والصبغة العامة، وليس هو التقرب فقط؛ كالمفهوم الشائع بين الناس اليوم.
ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع بأمر الله لجميع شؤون الحياة التي له فيها أمر ونهي وحكم، وليس للطاعات والقربات فقط؛ فمعصية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شؤون البيع والتجارة والزواج والطلاق والحكم والسياسة والحدود؛ كمعصيته في شؤون العبادة؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.
ثالثاً: للأمرين السابقين تصبح منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة المطلقة لا تدانيها منزلة لأحد من البشر.
ولذلك، فلا يقبل قول أحد؛ سواء كان: إماماً فقيهاً، أو زعيماً سياسياً، أو مفكراً أو مصلحاً؛ يخالف قولاً للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قدم قولاً لأحد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أساء وتعدى وظلم وخالف إجماع الأمة وكتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: لا تكمل هذه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا بكمال الحب له.
كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده والناس أجمعين] (متفق عليه).
ومما يعين على هذا الحب: التزام أمره دائماً، والمسارعة في طاعته، وتقديم قوله على كل قول، وتذكر مواقفه ومشاهده، ومدارسة سنته وسيرته صلوات الله وسلامه عليه.
ومما يؤسف له في أوساط المسلمين اليوم أنه قد ضعفت هذه المتابعة، وخبا ذلك الحب للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك للأسباب الآتية:

1- القول بجواز التقليد:
وذلك بعد تدوين الفروع الفقهية لكل مذهب من المذاهب الفقهية، والإفتاء بالعمل بهذه الفروع الفقهية مطلقاً، سواء كانت موافقة أو مخالفة للحديث الصحيح، بل والإفتاء بأنها جميعاً صواب، وإن كانت مختلفة متناقضة. وقد أدى هذا إلى الركون إلى كل قول ينسب إلى الفقه، والقعود عن طلب الدليل من القرآن والسنة، وبذلك ضعف العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى وبالأحاديث الصحيحة.
2- الإفتاء بغير علم ودليل:
أ) بعد الإفتاء بأن كل رأي فقهي في مذهب ما صواب؛ أفتى المفتون كل مستفت بما يناسبه من قول منسوب إلى الفقه، بل بحث بعضهم على ما سماه بالأيسر من كل مذهب في كل مسألة فأفتى به.
وناهيك بما في هذا من توهين العمل بالشريعة، بل بزوالها، إذ ما من مذهب إلا وله كثير من الأقوال المتساهلة جداً، التي جاء القرآن والحديث بخلافها، وليست هذه الرسالة مجالاً لبيان ذلك.
بل وتساهل بعض الناس أكثر من هذا، فأفتى بأي قول يصدر عن عالم ما!
وقد علم القاصي والداني ما أفتى به كثير من العلماء المحدثين في شأن الربا والخمر وملابس النساء وحقوقهن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ولو جمعنا الفتاوى الباطلة في هذه وغيرها، لخرجنا بأكثر من مجلد فيه ما يهدم الإسلام جملة وتفصيلاً.
ب) لم يقف الأمر بالفتاوى الباطلة وبأن كل قول صواب عند الإفتاء في أمور الشريعة، بل تعدى ذلك إلى العقائد والغيبيات، فوقعت أيضاً تحت الرأي والظن، وبذلك نفى كثير من العلماء الأحاديث الصحيحة في أمور كثيرة من أمور العقائد، وقالوا بالرأي والظن والاجتهاد في أمور العقيدة والغيب التي لا اجتهاد فيها، وجاروا آراء العصر الصادرة عن غير المسلمين.
3-  توعير طريق دراسة القرآن والسنة:
وذلك بالتخويف والتحذير الذي لا نفتأ نسمعه من كل ناعق: أن دراسة القرآن والسنة والتلقي منهما ضلال (راجع كتاب "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران" للقاضي أحمد بن حنبل حجر آل بن علي)!! وأنه يجب أولا عرض الآيات والأحاديث على أقوال الأئمة والفقهاء!! وكأن الأصل قد أصبح أقوال الناس لا قول الله ورسوله.
وبهذا التخويف والتحذير وعَّر هؤلاء طريق الفهم السليم للكتاب والسنة، وصدوا عن سبيل الله بعلم أو بغير علم، وجعلوها معوجة للسالكين فيها.
وقد خالفوا بذلك كتاب الله الذي يأمر باتباع الدليل مطلقاً، وبالبصيرة أبداً، وينهى عن التقليد والسير على منهاج الآباء والأجداد دون دليل وبرهان، وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم الآمر بتبليغ حديثه مما نطق به صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: [نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها]. وقوله: [وبلغوا عني ولو آية].
4- إيقاف العمل بالشريعة في كثير من نواحي الحياة.
لا يشك مسلم يفهم الإسلام في الوقت الحاضر أن الشريعة الإسلامية قد أقصيت إلا قليلاً عن مجالات حياة المسلمين، وذلك في شؤون كثيرة؛ كالحكم، والسياسة، وكثير من المعاملات، والحدود، والتربية، والاجتماع، والآداب العامة.
وكان لهذا أسباب كثيرة؛ كغلبة الكفار على أرض الإسلام وغرس أفكارهم وتقاليدهم وعاداتهم في بلاد الإسلام.
وكان من ذلك أيضاً مما نحن بصدده: جمود حركة الاجتهاد الفقهي، وذلك بالوقوف فقط عند ما دونه أئمة الفقه في عصور قديمة استحدثت بعدها كثير من الأقضيات والحوادث في شتى شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان لابد من حركة فقهية تحكم هذه الأمور؛ لتعطي المسلم الحركة الصحيحة بإسلامه في المجتمع الذي يعيش فيه.
ولكن هذا الجمود في الفقه وانفصال السلطة السياسية عن المنهج الإسلامي أدى إلى شل حركة المسلمين، وجعلهم حيارى بين ما يأخذون وما يدعون فيما جدَّ من أمورهم، وكانت الغلبة بالطبع للتيار القوي الذي تقوم عليه أجهزة الحكم وتوجهه أجهزة الإعلام المسخرة للسلطة السياسية.
وكان لهذا كله آثاره في انطماس طريق الإسلام وشريعته، وغياب المعنى الحقيقي لشهادة المسلم: أشهد أن محمداً رسول الله.
والمنهج السلفي لفهم الإسلام والعمل به يضع نصب عينه تذليل هذه العقبات التي حالت بين الناس ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن ينادي دائماً بالقول بتحريم التقليد، ويوجب على كل مسلم السؤال عن القول بدليله من الكتاب والسنة.
ولا يعنى هذا أننا نوجب على كل أحد أن يكون مجتهداً، لا؛ إنما نأمر كل أحد بأن يكون متبعاً للدليل، باحثاً عن الحجة من كتاب ربه أو سنة نبيه.
وبذلك تتوحد صفوف الأمة، وينمو فيها معرفة الكتاب والسنة، وتزكو فيها الروح العلمية والمسامحة الأخوية، ولا يستطيع مضل أن يضلها بسهولة؛ لأن ميزان الكتاب والسنة سيكون منصوباً لكل مفت ومتحدث في الدين، وبذلك أيضا يعظم عند المسلمين شأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظم شأن متابعته. وكذلك نلجم الألسنة التي تفتي دائماً بغير دليل عندما تعلم أن الناس لا يقبلون قولاً إلا بدليل وحجة، فإذا قال رأيه للناس؛ قال: هذا حكم الشارع؛ طالبه الناس بدليله من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبالأمرين السابقين وغيرهما يفتح للناس ميدان جديد لدراسة جادة للقرآن والسنة، فتجدد حياة الأمة، ويشع نورها، وتتضح معالم الطريق أمامها، ولا يستطيع أي من الناس -مهما كان دوره- أن يضل الناس -إلا أن يشاء الله- وأن يقودهم خلفه كالسائمة.
وإذا أحيينا فقه الكتاب والسنة على هذا النحو؛ استطعنا أن نوقف تيار العصر الإلحادي عند حده، وذلك أننا سنوقف الناس أمام مسؤولياتهم؛ فنحن نقدم لهم قول الله وقول رسوله لا قول فلان وفلان، فإن أذعنوا؛ فقد أسلموا، وإن جحدوا وأنكروا؛ فقد كفروا.
وبذلك تتضح السبل، ويحيا من حي عن بينة، ويهلك من حلك عن بينة.

ثالثاً: التزكية
التزكية إحدى المهمات التي من أجلها بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي غاية الرسالات وثمرتها.
قال تعالى ممتناً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2).
وقال أيضاً: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران:164).
فالله امتن علينا في هاتين الآيتين ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم الذي من مهماته قراءة آيات الله، وهذه نعمة كبرى؛ إذ نسمع كلام الله على لسان بشر منا.
ثم إنه يزكي هذه الأمة؛ بما يقرأ عليها، وبما يوحى إليه. ثم هو يخرج هذه الأمة من ظلمات الجهالة، وذلك بتعليم الكتاب والحكمة.
والكتاب: القرآن.
والحكمة: العلم النافع، الذي يضع من الإنسانية الأمور في نصابها.
ولذلك؛ فالسنة من الحكمة، والكتاب قد جاء بالحكمة أيضاً.
السؤال الآن: ما هي التزكية التي عرفنا آنفاً أنها إحدى وظائف النبي صلى الله عليه وسلم؟
التزكية للنفوس: تطهيرها، وتطبيبها، وتنقيتها من قبائحها؛ فالنفس الزكية: هي الطيبة الطاهرة البعيدة عن كل ما يدنس النفوس من غش وحقد وحسد وظلم وسخيمة.
وهذا المعنى مأخوذ من قول العرب: (زكا الزرع: إذ نما وأينع)، والرائحة الزكية: هي الطيبة.
قال تعالى مبيناً افتراق النفوس في الزكاة: {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها} (الشمس:7-10).
فالنفس الزكية: هي الطيبة الطاهرة النقية.
وقد أقسم سبحانه وتعالى أن الفلاح منوط بتزكية النفس وتطهيرها، وذلك في سورة الشمس، بعد أحد عشر قسماً، وليس في القرآن أقسام متوالية بهذه الكثرة على حقيقة واحدة؛ إلا في هذه السورة. قال تعالى: {والشمس وضحاها* والقمر إذا تلاها* والنهار إذا جلاها* واليل إذا يغشاها* والسماء وما بناها* والأرض وما طحاها* ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكـاها* وقد خاب من دساها} (الشمس:1-10).
وبين في آيات أخر أنه لا يدخل الجنة إلا من اتصف بهذه الزكاة والطيبة والطهر؛ كما قال تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلـم عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر:73).
والطيبة هنا هي سبب دخولهم الجنة، وهي ثمرة العبادة وغايتها، وهي تزكية النفس التي جاء الرسول من أجلها صلوات الله وسلامه عليه.
وبهذا البيان نصل إلى حقيقتين:
أولهما: أن التزكية إحدى مهمات النبي صلى الله عليه وسلم وغاية من غايات رسالته، بل سنعلم أنها غاية الرسالة والوجود الإنساني كله.
والثانية: أنها السبب في دخول الجنة، بل هي الصفة الواجبة التي من لم يتصف بها؛ لم يكن من أهل الجنة. 


والمنهج السلفي يقوم بين منهجين :
منهج التصوف ومنهج الظاهر الفقهي، فيحل التزكية محلها من دين الله سبحانه وتعالى، فيجعلها غاية للمسلم؛ يسعى إليها ويتخذ لها الوسائل المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة؛ فلا تزكية بغيرهما، ولا تزكية دونهما أبداً.
وبذلك يبطل في هذا المنهج جميع الاجتهادات العبادية والسلوكية التي ابتدعت في المنهج الصوفي؛ من الانفراد في الخرائب والقبور، والعيش على طعام بعينه، والعزلة مدة محددة، وترك النظافة والتطهر، وترك الكلام، والجلوس في الشمس، وتعذيب النفس بشيء لم يأت به الشارع، وقراءة الأذكار المبتدعة، والرقص والغناء والسماع الشيطاني الذي أصبح من لوازم الطرق الصوفي.
وكذلك يبطل المنهج السلفي هذا السعي الضال وراء ما يسمى بالفتوحات والكشوف، التي ما هي إلا وساوس شيطانية وأفكار فلسفية إلحادية، كشفنا زيفها في كتابنا الآنف؛ فارجع إليه؛ لتقف على هذه الحقائق العجيبة.
ويبطل في المنهج السلفي هذه الظاهرية الجامدة التي تتعامل مع نص وتنسى أهدافه وغاياته، وهذا الفقه الأعوج الذي جعل كل قول في الدين حجة، وكل فتوى -لا دليل عليها- حكماً شرعياً، وبذلك استحلت الحرمات، وفسدت مناهج الإصلاح، وأظلمت النفوس، وخبا فيها نور الوحي السماوي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمنهج السلفي للإصلاح والتربية والسلوك والتزكية لا يجعل مثلاً أعلى في هذا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو أطهر البشر نفساً، وأعلاهم مقاماً، وأقومهم خلقاً وأرشدهم طريقة ومنهجاً؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله: أنا].
ولذلك يجعل هذا المنهج السلفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلقه هي الأساس بعد كلام الله في التزكية والتطهير والاتباع.
وكذلك يجعل سيرة الصحابة الأول ورجال الصدر الأول الذين تمثلوا القرآن والسنة قولاً وعملاً وخلقاً قدوة في التزكية؛ فهم المُثُل الحية لزكاة النفس وطهارتها، ولا يقاس بهم من بعدهم أبداً؛ فهم خير القرون وأنفعها للمسلمين، ويأتي بعدهم التابعون بإحسان، والعلماء العاملون في كل عصر؛ وفق ذلك المنهج السلفي الذي شرحنا أصوله آنفاً.
فالعلماء الذين اتبعوا منهج الكتاب والسنة؛ توحيداً، واتباعاً، وتزكيةً، ولم يقعوا في الشرك الظاهر، أو التأويل الباطل، أو ظلال السلوك، وترهات التصوف: هم القدوة بعد الصحابة والتابعين. 

الأحد، 28 أكتوبر 2012

عليك بآثار السلف


قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
عن جابرٍ - رضي اللَّه عنه- قال : قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم : « أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ » . رواه مسلم
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيراً، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِيِّنَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة ». [أخرجه : أبو داود ( 4607 ) ، وابن ماجه ( 43 ) ، والترمذي ( 2676 ) وقال: حديث حسن صحيح]
عن أبي قلابة، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يُقبض، أو متى يُفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق ». [الدارمي (144) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (163) ، السنَّة لمحمد بن نصر المروزي (80)]
تبدَّع الشيء : أَنشأَه وبدأَه أو أحدثه واخترعه والمراد هنا : الحدث في الدين بعد الإكمال
التنطع : التكلف والمغالاة والتعمق في القول أو الفعل
التعمق : المبالغة في الأمر والتشدد فيه
العتيق : القديم وما كان عليه الأوائل والمراد التمسك بالقرآن والسنة
وقال أيضاً : « إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون، ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالهدي الأول ». [الدارمي (169) ، السنَّة للمروزي (80)]
وكان حذيفة يدخل المسجد فيقف على الحلق فيقول: « يا معشر القراء اسلكوا الطريق، فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ». [البخاري (7282) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (12) ، السنة لعبد الله بن أحمد (106) ، السنَّة للمروزي (86)]
ودخل ابن مسعود الأنصاري رضي الله عنه على حذيفة، فقال: « اعهد إلي » . فقال : « ألم يأتك اليقين ؟ » قال : « بلى وعزة ربي » . قال : « فاعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله تعالى، فإن دين الله واحد ». [اعتقاد أهل السنة لللالكائي (120) ، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (168)]
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه –أيضاً- : « كلّ عبادة لم يَتَعبدْ بها أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وآله وسلم- فلاَ تَتَعبَّدوا بها ؛ فإِن الأَوَّلَ لَمْ يَدع للآخِر مَقالا ؛ فاتَّقوا اللهَ يا مَعْشَر القرَّاء ، خُذوا طَريقَ مَنْ كان قَبلكُم ». [الإبانة لابن بطه]
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « مَنْ كان مُسْتنّا فَلْيَسْتن بمَنْ قَدْ مَاتَ أولئكَ أَصْحابُ مُحمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خَيرَ هذه الأمَّة، وأَبَرها قُلوبا، وأَعْمقَها عِلْما، وأَقَلّها تَكلفا، قَوم اخْتارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَة نَبيه - صلى الله عليه وسلم - ونَقلِ دينه فَتَشبَّهوا بأَخْلاقِهِم وطَرائِقِهم ؛ فَهُمْ كانوا عَلَى الهَدْي المُستقِيم ». [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/97) ، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني (498) ، الشريعة للآجري (1143)]
وعن عثمان بن حاضر، قال: قلت لابن عباس: أوصني، قال: « عليك بالاستقامة، واتباع الأثر، وإياك والتبدع ». [سنن الدارمي (141) ، الإبانة لابن بطه (164)]
وعن الزهري ، قال: « كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض سريعا، فـنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وذهاب العلماء ذهاب ذلك كله ». [سنن الدارمي (96) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (136) ، الإبانة لابن بطه (166)]
وقال محمد بن سيرين: « كانوا يرون أنَّه على الطريق ما كان على الأثر ». [سنن الدارمي (140) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (109) ، الإبانة لابن بطه (250) ، الشريعة للآجري (30)]
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذِّكْر، إلا قال حين يجلس: « الله حَكَم قِسْط ، هلَكَ المرتابون، فقال معاذُ بن جبل يوما : إن ورائَكم فِتَنا يَكْثُرُ فيها المال، ويُفتَح فيها القرآنُ حتى يأخذَه المؤمنُ والمنافقُ، والرجلُ والمرأةُ، والعبدُ والحرُّ، والصغيرُ والكبيرُ ، فيوشكُ قائل أن يقول: ما للناس لا يتَّبعوني وقد قرأت القرآن ؟ وماهم بِمُتَّبِعيَّ حتى أبتدعَ لهم غيرَه فإياكم وما اْبتَدَع، فإنما ابتدَع ضلالة، وأخذِّركم زَيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحق » قال: قلت لمعاذ: وما يدرينا رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأنَّ المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: « اجتنبوا من كلمة الحكيم كل متشابه، الذي إذا سمعته قلت: ما هذه؟ ولا ينأينك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، ويلقي الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا ». [سنن أبي داود (4611) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (116) ، الإبانة لابن بطه (149) ، الشريعة للآجري (88)]
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله ». [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1242) صفة المنافق للفريابي (26)]
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : « عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ الرَّحْمَن فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ فَمَسَّتْهُ النَّارُ أَبَدًا ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ذَكَرَ اللَّهَ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ إِلاَّ كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَبِسَ وَرِقُهَا فَهِيَ كَذَلِكَ إذْ أَصَابَتْهَا رِيحٌ فَتَحَاتَّ وَرَقُهَا عنها إِلاَّ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عن هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَرِقُهَا، وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سُنَّةٍ وَسَبِيلٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي غَيْرِ سُنَّةٍ وَسَبِيلٍ، فَانْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ، فَإِنْ كَانَتِ اقْتِصَادًا وَاجْتِهَادًا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ ». [مصنف ابن أبي شيبة (36675) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (10) ، الإبانة لابن بطه (259)]
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ، وَأُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، فَعَلَيْك بِالتُّؤَدَةِ، فَتَكُونُ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ ». [مصنف ابن أبي شيبة (38343) ، الإبانة لابن بطه (184)]
وعنه رضي الله عنه – أيضاً - قال: « يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني مفصل الأنملة، فإن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى، وإنه لم يكن أهل كتاب قط، إلا كان أول ما يتركون السنة، وآخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم أهل كتاب لتركوا الصلاة ». [مستدرك الحاكم (8584) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (122) ، الإبانة لابن بطه (194)]
وعنه – أيضاً - قال: « كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ الفِتْنَةُ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِنْ غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ» ، قَالُوا: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ : « إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ». [مصنف ابن أبي شيبة (38311) ، سنن الدارمي (185) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (123) ، الإبانة لابن بطه (764) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (261)]
وقال رضي الله عنه – أيضاً - : « إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله » . قال ابن المبارك : وكفى بالله وكيلا. [البدع والنهي عنها لابن وضاح (4)]
وعن ابن عباس ، قال : « والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني » . فقيل: وكيف ؟ ، فقال : « والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب، فيحملها الرجل إلي، فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة ، فترد عليه ». [اعتقاد أهل السنة لللالكائي (12)]
وعن أبي إدريس الخولاني ، قال : « لئن أرى في المسجد نارا تضطرم أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير ». [الإبانة لابن بطه (601) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (86) ، السنة لعبد الله بن أحمد (715) ، السنة للمروزي (81)]
وعن ابن عباس، قال : « لا يأتي على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع، وتموت السنن ». [اعتقاد أهل السنة لللالكائي (125) ، الإبانة لابن بطه (11) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (93) ، السنة للمروزي (98)]
وعن عبد الله الديلمي، قال : « إن أول الدين تركا السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة ». [سنن الدارمي (97) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (127) ، الإبانة لابن بطه (234) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (173)]
وعن سلام بن مسكين، قال: كان قتادة إذا تلا: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } قال: « إنكم قد قلتم ربنا الله فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنة نبيكم، وامضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثم لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذ عن السنة، ولا تخرج عنها، فإن أهل المروق من الإسلام منقطع بهم يوم القيامة، ثم إياكم وتصرف الأخلاق، واجعلوا الوجه واحدا، والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه من كان ذا وجهين، وذا لسانين كان له يوم القيامة لسانان من نار». [الإبانة لابن بطه (163)]
وعن عاصم قال: قال أبو العالية: « تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتوه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فرددها مرارا ».
فحدثت الحسن فقال : صدق ونصح.
قال : فحدثت حفصة بنت سيرين ، فقالت : يا باهلي ، أنت حدثت محمدا بهذا ؟ قلت: لا. قالت: فحدثه إذا. [مصنف عبد الرزاق (20758) ، اعتقاد أهل السنة لللالكائي (17) ، الإبانة لابن بطه (142) ، البدع والنهي عنها لابن وضاح (75) ، السنة للمروزي (26) ، الشريعة للآجري (19)]
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تأمل كلام أبي العالية هذا ما أجلَّه، وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، ... وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو مطمئن أنها لا تناله ويظنها في قوم كانوا أمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وعن الحسن البصري - رحمه الله تعالى- قال : « لو أَن رجُلا أَدركَ السلفَ الأَولَ ثم بُعثَ اليومَ ما عَرَفَ من الإِسلام شيئا » قال: ووضع يده على خدِّه ثم قال: « إِلا هذه الصلاة » ثم قال: « أَما والله ما ذلكَ لمن عاشَ في هذه النكراء ولم يدرك هذا السلف الصالحَ؛ فرأى مبتدعا يدعو إِلى بدعته، ورأى صاحبَ دنيا يدعو إِلى دنياه؛ فعصمهُ الله من ذلكَ، وجعلَ قلبهُ يحنّ إِلى ذلك السَّلف الصالح يَسْأَلُ عن سبيلهم، ويقتص آثارهُم، ويَتّبعُ سبيلهُم، ليعوض أَجرا عَظيما؛ فكذلك فكونوا إِن شاء الله ». [البدع والنهي عنها لابن وضاح (176)]
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ : « سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننـًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها. من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا ». [اعتقاد أهل السنة لللالكائي (134) ، الإبانة لابن بطه (239) ، الشريعة للآجري (90)]
وقال الإمام البربهاري في شرح السنة : « اعلم أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، فمن السنة لزوم الجماعة ومن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالا مضلا ».
وقال : « واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعا مصدقا مسلما فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم وكفى بهذا فرقة وطعنا عليهم
قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ». [شرح السنة للبربهاري (1)]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان وجوب إتباع مذهب السلف: « وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال : عليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جُعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حَدَثٌ حَدَثَ بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما ذلك لعلى هدى مستقيم ». [الفتاوى (4/7)]
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى : « السنَّة سَفينةُ نوح مَن رَكبَها نجَا ومَن تَخَلّفَ عنَها غَرِقَ ». [تاريخ بغداد (3850)]
عن عبد الله بن المبارك - رحمه الله- قال : « اعلم- أي أخي- أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء، وأهل السنة، وظهور البدع ». [البدع والنهي عنها لابن وضاح (95)]
وقال الإمام الأوزاعي: « عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول؛ فإن الأمر ينجلي - حين ينجلي - وأنت على طريق مستقيم ». [شرف أصحاب الحديث (6) ، الشريعة للآجري (124) ، سير أعلام النبلاء (7/120) ، طبقات الحنابلة (1/236)]
وعن سعيد بن جبير ، قال : « لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة ». [اعتقاد أهل السنة لللالكائي (18)]
كان ابن عون يقول : « رحم الله رجلا لزم هذا الأثر، ورضي به، وإن استثقله واستبطأه ». [الإبانة لابن بطه (270)]
عن وهب بن منبه قال : « الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة : أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان » قال محمد بن الحسين: جعلنا الله وإياكم ممن تحيا بهم السنن، وتموت بهم البدع، وتقوى بهم قلوب أهل الحق، وتنقمع بهم نفوس أهل الأهواء، بمنه وكرمه. [الإبانة لابن بطه (39) ، الشريعة للآجري (3)]
وقال سهل بن عبد اللّه التّستري: « عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه ».
وعن سليم بن أخضر قال سمعت ابن عون يقول غير مرة: « ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآن فيتعمله ويقرأه ويتدبره وينظر فيه والثانية أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه ويتبعه جهده والثالثة أن يدع هؤلاء الناس إلا من خير ». [السنة للمروزي (106)]
وعن ابن الماجشون، قال: سمعت مالكا يقول: « مَن ابْتَدَعَ في الإِسلام بدعة يَراها حَسَنة ؛ فَقَدْ زَعَمَ أَن مُحمّدا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خانَ الرّسالةَ ؛ لأَن اللهَ يقولُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فما لَم يَكُنْ يَوْمَئذ دينا فَلا يكُونُ اليَوْمَ دينا ». [الاعتصام للشاطبي (1/62)]
قال الإمام ابن بطه العكبري : « فقد ذكرت في هذا الباب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، والتابعين بعدهم بإحسان من لزوم السنة، واتباع الآثار ما فيه بلاغ، وكفاية لمن شرح الله صدره ووفقه لقبوله، فإن الله عز وجل ضمن لمن أطاع الله ورسوله خير الدنيا، والآخرة، فإنه قال: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وتوعد من خالف ذلك وعدل عنه بما نستجير بالله منه ونعوذ به ممن كان موصوفا به فإنه قال: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } ، فرحم الله عبدا لزم الحذر واقتفى الأثر، ولزم الجادة الواضحة، وعدل عن البدعة الفاضحة ».

الجمعة، 26 أكتوبر 2012

الجذور التاريخية لظهور مصطلح السلفية

كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فسلف الرجل لغة: آباؤه المتقدمون ممن هم فوقه في السن والفضل، والمفرد: سالف، ومن الناحية التاريخية؛ فالمراد بالسلف: أئمةُ الصحابةِ -رضي الله عنهم-، والتابعين، وتابعيهم؛ ممن عُرفوا بالإمامة والفضل دون من اشتهر أو رُمي ببدعة.
واصطلاحًا: مذهب "السلف" -أو السلفية- والمراد به: ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومَن تَبِعَهم وشُهِدَ له بالإمامة في الدين، وعُرِفَ فضلُه وعَظُم شأنه فيه، وتلقى الناس كلامه بالقبول؛ كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن.
فكل مَن التزم بمنهج وعقائد هؤلاء الأئمة من السلف؛ نُسِبَ إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأزمان، وكل مَن خالفهم في المنهج أو العقيدة؛ فلا يُنسَب إليهم وإن عاش بين أظهرهم وخالطهم.
فالسلفية هي المدرسة التي حافظت على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنهج والاعتقاد خاصة بعد أن ظهر الافتراق العقائدي في الأمة، وكثرت الفرق المختلفة التي خالفت -وخرجت- عن منهج الصحابة وما اعتقدوه، وقد تعددت مسميات هذا المذهب -أو قل: ترادفت- مع ثبات المضمون، فلما كان علماء الحديث في زمن التابعين هم ورثة علم الصحابة -رضي الله عنهم- وفهمِهم للكتاب والسنة؛ تَسَمَّى السائرون على منهج وعقيدة الصحابة بـ: "أهل الحديث".
ولما تفاقمت البدع وشذ أهل الأهواء عن الجماعة في المنهج والاعتقاد؛ تسمى المتمسكون بمنهج وعقائد الصحابة وأهلِ الحديث في عهد تابعي التابعين بـ: "أهل السنة والجماعة" في مقابلة "أهل البدعة" من المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والرافضة، ونحوِهم، ولما حاول الخَلَفُ من الأشاعرة نصرةَ عقائد سلف الأمة بالمنهج العقلي -كطريقة المبتدعة من المتكلمين-؛ سـُمِّيَ المتمسكون بمنهج السلف بـ"السلفيين"، فظهور مصطلح "السلفية" من الناحية التاريخية ارتبط بظهور "مذهب الخلف" من الأشاعرة الذين زعموا نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، ونزيد هذا الأمر وضوحًا؛ فنقول:
كمال الدين في عهد الصحابة مُجتمِعِينَ:
بلغ الدين كماله في عهد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لم يمت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن بلـَّغ الرسالة كاملة، قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)، فما من شيء يقربنا إلى الجنة إلا وأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينه لنا، واجتمع علم ذلك في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- مُجتمِعِينَ، ولم يكن مطلوبًا من المسلمين إلا أن يحافظوا على هذا الدين كاملاً -علمًا وعملاً- كما تلقاه الصحابة وطبَّقوه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتميز جيل الصحابة -رضي الله عنهم- بأنهم كانوا على منهج وعقيدة واحدة لا يختلفون فيها، وما وقع بينهم -وهو قليل- من منازعات وخلافات؛ فلم تكن ذات طابع عقائدي، ولا شك أن اجتماعهم على المنهج وفي الاعتقاد حجةٌ في الدين؛ إذ إجماعهم أَوْلَى من أي إجماع خاصة، وهو ثابت عنهم معروف.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في "منهاج السنة": "ويَعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا يَنتصِر لشخص انتصارًا مطلقـًا عامًّا إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا لطائفة انتصارًا مطلقـًا إلا للصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-"(1).
ودليل ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- في الفرقة الناجية عندما سئل عنها: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، قال ابن تيمية: "هو حديث صحيح مشهور"، وجاء في وصيته -صلى الله عليه وسلم- للأمة أن تتمسك بهدي أئمة الصحابة وسنتِهم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان العلاج عند وقوع الافتراق والاختلاف: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)؛ فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتَه وسنتَهم في ضمير واحد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَضُّوا عَلَيْهَا)، ولم يقل: "عضوا عليهما"، فسنتهم هي سنته؛ فهم لم يخرجوا عنها -وحاشاهم-، بل نقلوها وطبَّقوها كما عَلَّمها لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان هَديُهم ومنهجُهم -رضي الله عنهم-: تقديمَ الكتاب والسنة، والاحتجاجَ بهما.
يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: "ونفهم من استقراء أقوالهم وسلوكهم في جميع أصول الدين أنهم كانوا يتقيدون بهذا المنهج -أي: تقديم الشرع على العقل- لا عن قصور في الفهم، ولكن لمعرفتهم بمكانة الشرع، وضرورة تقديمه على الاستنباطات العقلية التي لا تستند إلى دليل"(2).
وما وقع في الأمة بعد ذلك من اختلافٍ في العقائد عمَّا كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وتقديمِ العقل على الأدلة الشرعية هو من نقصان الدين والخروجِ عليه.
يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: "لم يكن الكلام في الدين -إذن- تطورًا من البسيط إلى المركب، أو من الأدنى إلى الأعلى، بل كان نكوصًا من الكمال إلى النقصان، وعصيانـًا للأوامر، وانشقاقـًا عن الجماعة"(3).
حفاظ الأمة على الدين في عهد التابعين وتابعي التابعين:
كان حال علماء الأمة من التابعين وتابعي التابعين -وهم الآخذون بعلم الصحابة وفهمِهم، والناقلون لما كانوا عليه؛ إذ كانوا أهل حديث- هو الامتدادَ التلقائيَّ لمنهج وفهمِ الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانوا هم ومَن وافقهم جمهورَ الأمة وجماعتَهم؛ لذا كان مَن يأتي بما يخالفهم يواجَه بالإنكار ويوصَف بالشذوذ؛ لأنه خرج عن جماعة المسلمين.
وامتد دور أهل الحديث من التابعين وتابعيهم مِن عصر الصحابة إلى عصر بني أمية وفترة من حكم الدولة العباسية، ورغم ظهور الخوارج والشيعة الرافضة ومَن بعدهم من المبتدعة؛ فإن هذا لم يُؤَثِّر في القاعدة العريضة من المسلمين، لذا لم يتميزوا خلال تلك الفترة باسم خاص، فهم "أهل الحديث" وكفى، وإنما تَسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته وانشقاقه؛ خاصة وإنهم قلة بجانب الكثرة المتمسكة بمنهج ومعتقد الصحابة -رضي الله عنهم- وأئمة التابعين وتابعي التابعين، لذا لما سُئل الإمام مالك عن تعريف أهل السنة والجماعة؛ قال: "الذين ليس لهم لقب يُعرَفون به؛ لا جَهْمِيٌّ، ولا رافِضِيٌّ، ولا قَدَرِيٌّ"(4).
لقب "أهل السنة" في مقابلة لقب "المُعتَزِلة":
لما كثر خوض أهل البدع بمنهجهم العقلي في عقائد المسلمين، وظهر واستفحل علم الكلام والفلسفة على يد "المعتزلة" خاصة في عهد الخليفة العباسي "المأمون"؛ تَسَمَّى المتمسكون بمنهج الصحابة والتابعين وتابعيهم بـ"أهل السنة" في مقابلة أصحاب المنهج العقلي من المعتزلة، فصار لقب "السني" في مقابلة لقب "المعتزلي"، ولما تصدى الإمام أحمد بمنهجه المبنيِّ على الاحتجاج بالكتاب والسنة في مواجهة أئمة "المعتزلة" -المُدَعَّمِينَ بتأييد بعض الخلفاء العباسيين- وانتصر عليهم؛ الْتَفَّتِ الأمةُ حول إمامها؛ فسُمِّيَ بـ"إمام أهل السنة والجماعة" حتى صار اسم "الحنبلي" يُطلَق على "السني" عند البعض في تلك الفترة الزمنية.
يقول الإمام أحمد مبينـًا منهجه في مقابلة المعتزلة في زمانه: "لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"(5).
محاولة "الأشاعرة" نصرة عقائد السلف بمنهج "المتكلمين":
ولد أبو الحسن الأشعري بالبصرة عام 260هـ، ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة على يد علي الجبائي، ولما تبين له فساد مذهب المعتزلة؛ قام بالرد عليهم، ومال إلى نصرة عقائد أهل السنة على منهج المعتزلة في الاستدلال، وقد تبين له في أواخر حياته صحة مذهب السلف منهجًا واعتقادًا؛ فالتزمه، يشهد لذلك آخر كتبه التي أَلَّفَها وهو: "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكنَّ أتباعَه ومَن وافقهم تمسكوا باستخدام المنهج الكلامي في الدفاع عن عقائد أهل السنة والجماعة في مواجهة المعتزلة، بل واعتبروا علمَ الكلام من جملة العلوم الشرعية المشروعة إذا أراد به مُتعلِّمُه نصرةَ عقائد أهل السنة!
ورأوا أن طريقتَهم -طريقة الخلف- في الرد على المخالفين لأهل السنة بعلم الكلام أعلمُ وأحكمُ، وأن طريقةَ السلف في الاقتصار على الكتاب والسنة في الاستدلال أسلمُ وأحوطُ، وزعموا أنهم بمثابة امتداد للسلف، وأطلقوا على أنفسهم لقب "الخلف"، كما زعموا أنهم جمعوا بين العقل والنقل معًا، ولكنَّ طريقة الأشاعرة لم تلقَ تأييد "أهل الحديث" وأتباعِ الإمام أحمد -"أهل السنة والجماعة"-، ورأوا أن منهج الأشاعرة في الرد على المعتزلة هو خروج عن منهج السلف ومذهبهم، خاصة وأن للأشاعرة مخالفاتٍ عقائديةً تظهر في قولهم بـ"نظرية الكسب" في تفسير أفعال العباد، وقولِهم: إن الإيمان هو المعرفة، ولا يلزم النطق بالشهادة، ولا العملُ كغلاة المرجئة، وقولِهم: إن كلام الله كلامٌ نَفْسِيٌّ، وإن القرآن عبارةٌ عن كلام الله، واقتصارِهم في إثبات الصفات على صفات سبعة، والتكلمِ في صفات الأفعال بالتأويل(6).
والمذهبُ السَّلَفِيُّ يرفض علم الكلام؛ سواء على طريقة المعتزلة أو على طريقة الأشاعرة، والأشاعرةُ وإن أَيَّدُوا أهلَ السنة في عدة مسائلَ إلا أنهم ليسوا بسلفيين، وهم وإنْ كانوا يُذكَر لهم دورُهم في الرد على المعتزلة وبيانِ فساد ما هم عليه إلا أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال، والحقُّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ.
يتبين من هذا العرض التاريخي المختصَرِ أنه لما كان جمهور الأمة على ما كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لم يحتج الأمر أن يتسموا باسم، وإنما كان يُسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته، ولكنْ لما تَفَشَّت البدع وكثر الخروج عما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وقَلَّ مَن منهجُهم التمسكُ بما ورد في الشرع، وكثرت الفرق وتعددت؛ كان لزامًا أن يكون لأهل الحق اسمٌ يميزهم عن غيرهم، ويشير إليهم، ويدل عليهم، ويكون عنوانـًا لِمَا هم عليه، ولا يوجد مانعٌ شرعًا من التسمي باسم أو الاشتهار بلقب إذا كان المضمون موافقـًا للشرع.
ولقد ظل التمسك بمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومعتقدِهم ثابتًا لا يتغير، ولكن لما حَمَل منهجَهم ومعتقدَهم أهلُ الحديث وعلماؤه؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل الحديث"، ولما وقع الانشقاق في الأمة وكثرت البدع في مقابلة السنة؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل السنة والجماعة"، ولما جاء الخلف مِن الأشاعرة وقالوا عن طريقتهم أنها أحكمُ وأعلمُ وخالفوا منهج السلف؛ كان اسم "السلفية" هو العنوانَ على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من منهج ومعتقد، فتغيرت الأسماء ولم يتغير المضمون، فصارت هذه الأسماء بمثابة مترادفات لمضمون واحد.
ولا يخفى أن الأشاعرة لما زعموا أن طريقتهم في الاستدلال بمنهج المتكلمين أعلم وأحكم، وأن طريقة السلف أسلم وأحوط؛ كان ذلك مدعاةٌ أن يقال: طريقة الخلف وطريقة السلف، ومنهج الخلف ومنهج السلف، وظهور مصطلح السلفية والمذهب السلفي من كلام الأشاعرة أنفُسِهم، ولم يحتج الأمر إلى رفض أهل الحق لتلك المُسَمَّيَات، إنما كان رَدُّهم على ذلك أن طريقة السلف ومنهجَهم هي الأعلمُ والأحكمُ كما أنها الأسلمُ والأحوطُ.
ولقد تَسَمَّى البعض في زمن النبوة بـ"المهاجرين"، والبعضُ بـ"الأنصار"؛ فلم يُنكَر عليهم التَّسَمِّي بذلك؛ بل ربما كان للمهاجرين في القتال رايةٌ، وللأنصار رايةٌ، وكلاهما تحت لواء المسلمين، ولكن لما تنازع بعض المهاجرين مع بعض الأنصار، وصاح صائحهم: يا للمهاجرين، والآخرُ: يا للأنصار؛ قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)، فأنكر عليهم العصبية للمسميات، ولم يُنكِر عليهم التسميَّ بها قبلَ ذلك أو بعدَه، فلا مانع شرعًا من التسمي بأسماء، إنما النظر للمضمون: ألاَّ يكون فيه مخالفةٌ للشرع، وألاَّ يكون هنالك التعصبُ للمسميات دون النظر للمضمون.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(7): "لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقـًّا، فإن كان موافقـًا له باطنـًا وظاهرًا؛ فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنـًا وظاهرًا، وإن كان موافقـًا له في الظاهر فقط دون الباطن؛ فهو بمنزلة المنافق؛ فتُقبَل منه عَلانِيَتُه، وتُوكَل سَرِيرَتُه إلى الله، فإنَّا لم نـُؤمَر أن ننقُبَ عن قلوب الناس ولا نشقَّ بطونَهم" اهـ.