الخميس، 25 أبريل 2013

السلفية المفهوم والتحديات‏


لفظ سلف في اللغة يراد به ما مضى وتقدم كما قال تعالى :"وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ ‏فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"[البقرة :275] كما يراد به القوم ‏الـمتقدّمون فكل من تقدم من الناس فهو سلف لمن جاء بعدهم ، قال الله تعالى :"فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين" وقد ‏وردت مادة "سلف" في القرءان في ثمانية مواضع كلها دالة عما تقدم ذكره، والملاحظ في اللفظ مطلق التقدم الزمني، دون ‏الاقتصار على قوم معينين أو جماعة محددة من الناس، والسلف بمعنى من سبق منهم الصالحون ومنهم الطالحون، والنسبة إليه ‏سلفي، والسلف الصالح بالنسبة لنا هم أصحاب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، والنسبة إليهم لا تعني إلا أن المنسوب ‏إليهم سائر على نهجهم وطريقتهم، وعلى ذلك فالسلفية ليست جماعة من الجماعات، كما أنها ليست فترة زمنية من الفترات ‏مرت وانتهت، وإنما السلفية تعني متابعة السلف الصالح في تعاملهم مع كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، في فهم الدين والعمل ‏به والدعوة إليه، وهم أهل السنة والجماعة، مما يعني أن السلفية منهج علمي وعملي شامل ومتكامل تجاه النصوص ‏الشرعية، وليست مجرد موقف علمي، وقد حث الله تبارك وتعالى على اتباع السلف الصالح في قوله :"وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ ‏مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة :100]، كما قال عنهم رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم :"خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين ‏يلونهم"‏ ، فهي بذلك منهج قابل للتكرار على اتساع الزمان والمكان.‏

‏لقد كان التزام المسلمين بالمنهج السلفي في التعامل مع نصوص الشريعة من حيث الفهم والعمل، ضمانة ثبات الدين ‏عندهم وعدم تحريفه في أذهانهم، مصداقا لقوله تعالى :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر:9] كما مكَّن هذا ‏الالتزام من التعامل مع النوازل والمستجدات بالطريقة نفسها التي تعامل بها السلف الصالح معها، مما يعني وحدة المنهج التي ‏تؤلف بين المسلمين فتجعل منهم نسيجا متجانسا، ولا يعني هذا عدم الاختلاف بين أصحاب المنهج السلفي في الفهم مطلقا، ‏فذلك أمر غير مقدور كما أنه ليس مطلوبا، وإنما يكون الخلاف في هذه الحالة خلافا منضبطا أي وفق أطر وقواعد معلومة، ‏تنأى بالاختلاف في الفهم والاستنباط عن أن يكون تفرقا في الدين، أو تفلتا وخروجا على النصوص، كما لا يعني العصمة ‏في الفهم والعمل، بحيث لا تكون هناك أخطاء علمية أو عملية، فذلك أيضا لم يُضمن لأحد غير الرسل صلوات الله وسلامه ‏عيهم، ومن أدبيات المنهج السلفي ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه قال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير ‏النبي ‏ صلى الله عليه وسلم "‏ ، وتبعه في ذلك مجاهد فقال :"ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ‏ صلى الله عليه وسلم "‏ ، وقد ورد نحو هذا عن الأئمة ‏الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، وقد ورد نحو ذلك أيضا عن كوكبة كبيرة من أهل العلم في ‏جميع المذاهب.‏

‏لقد كانت طبيعة هذا المنهج الذي يلتزم بقول الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا ‏اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات:1]، وبقوله تعالى :" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ‏الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً" [الأحزاب:36] سبب رئيس لأن يتحالف ضد متبعيه على طول ‏التاريخ المتفلتون الذين لم يقدموا الكتاب والسنة على ما عداهما مما يظنونه من اتباع العقول أو المصالح، بل عدوا الكتاب ‏والسنة كأحد ما يمكن أن يرجع إليه ضمن أشياء أُخر.‏

مفاهيم خاطئة عن المنهج السلفي :‏

يروج المناوئون للمنهج السلفي بعض المفاهيم المغلوطة عنه، ويخلطونها ببعض التحليلات التي تعتمد على تلك ‏المفاهيم، فمن ذلك دعواهم :أن المنهج السلفي منهج إقصائي حاد وعنيف يلغي الآخر المسلم ولا يعترف به، مما يترتب عليه ‏تقسيم البلاد وتفتيت الجماعة، وتهديد الوحدة الوطنية والعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي وهو يؤدي في النهاية إلى ‏الاحتراب الداخلي، وهم يدعون لأجل ذلك إلى إقصاء المنهج السلفي، وإلى التمييع في متابعة الكتاب والسنة والسلف ‏الصالح بزعم التمكين للتعددية الثقافية والمذهبية، وهذا بلا شك غير صحيح بل أصحاب المنهج السلفي هم أهل اتِّباع السنة ‏وأهل الجماعة والاجتماع، فهم حريصون على الجماعة يذمون التفرق ويصبرون من المخالف على الأذى، قال الإمام أحمد ‏رحمه الله تعالى في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله ‏قال :الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقابا من أهل العلم يدعون من ضل إلي الهدى، ويصبرون منهم علي ‏الأذي، يحيون بكتاب الله الموتي ويبصرون بنور الله أهل العمي، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد ‏هدوه، فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، وقد طبق ذلك رحمه الله عمليا وموقفه العملي في ذلك مع ‏المعتزلة الذين عذبوه وسجنوه معروف مشهور، وهذا مالك بن أنس رحمه الله تعالى لما اسشاره هارون الرشيد في حمل الناس ‏على موطئه قال له :"لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان ‏عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال"‏ ‏ ، ومواقف أصحاب المنهج السلفي في ذلك كثيرة مشهورة فكيف يقال ‏عنهم إنهم إقصائيون؟ وقد سُمي السلف الصالح بأهل السنة والجماعة من حرصهم على الالتزام بالسنة ومجانبة الابتداع، ‏وعلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وبهذا يظهر أن هذه مواقف أصيلة في المنهج السلفي وليست تنازلات مؤقتة فرضتها ظروف ‏قاهرة، والشيء الغريب في ذلك أن الذين يرمون الاتجاه السلفي بهذه الفرية هم من يعلنون ويطالبون بإقصاء التيار السلفي، ‏بل الأغرب من ذلك أن من قبل من هؤلاء بالحل الديمقراطي وأن يكون قرار الشعب هو الفاصل، تجده يقول :ولكن كيف ‏نفعل ذلك من غير أن يصل أصحاب المنهج السلفي إلى الحكم؟، فحتى النظام الانتخابي الذي ارتضوه يسعون إلى صياغته ‏ليكون قائما على الإقصاء.‏

ومن ذلك حديثهم أن أصحاب المنهج السلفي لا يستطيعون العيش بدون معارك داخلية مع العلمانيين والراوفض ‏وغيرهم، والشيء الغريب أن أصحاب هذه الأقوال هم من يقومون بمعارك داخلية عنيفة وإقصائية مع من يختلفون معهم، ‏لكنهم لا يقبلون أن يرد عليهم أحد، فهم ينكرون على غيرهم ما هم غائصون فيه إلى الأذقان، ولكن بفارق مهم هو أنهم لا ‏مرجعية لهم في إنكارهم على السلفيين، فمن المعلوم من دين الإسلام وعند كل المسلمين أن الأمر بالمعروف والنهي عن ‏المنكر مما أمرت به الشريعة وجاءت به الرسالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات ثلاثة باليد واللسان والقلب، ‏ولا شك أن كل من كان لديه علم صحيح فعليه أن يقوم بالبيان في هذا الأمر، فهل المطلوب من السلفيين أن يكفوا عن ‏الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغلقوا أفواههم على ألسنتهم حتى يقال عنهم إنهم منفتحون أو يقبلون بالتعددية؟، إن ‏هذا الاعتراض في حقيقته هو اعتراض على شريعة الإسلام نفسه وليس على السلفيين فحسب، إن الأمر والنهي أمر قد ‏مارسه المسلمون في كل عصورهم، وكان ضمانة مهمة من ضمانات أمن المجتمعات الإسلامية، وإن الدعوة اليوم إلى إهماله ‏أو تهميشه بحجة السماح بالتعددية الثقافية ونحو ذلك هي دعوة إلى إفساد المجتمعات وتخريبها، وتلك مهمة كثير من التيارات ‏المناوئة للمنهج السلفي .

حرب السلفية من جهة تيارات الحداثة بجميع فصائلها :‏

كل من كان يريد الخروج على هذه الشريعة الكاملة ومنازعة الكتاب والسنة في المرجعية، فلا بد أن يهاجم أصحاب ‏المنهج السلفي لأن أصحابه هم الذين يتصدون له ويردون عليه بالدليل ويبينون زيف كلامه أو دعواه.‏

‏ في عصرنا الحاضر توجد مجموعات عدة تعادي أصحاب المنهج السلفي، بعضها يستند إلى جذور قديمة وبعضها ‏محدث جديد، فممن يستند في ذلك إلى أصولهم ومرجعياتهم القديمة، الشيعة وكذلك الصوفية.‏

‏ لكن هناك فئة معاصرة تعادي أصحاب المنهج السلفي، من غير أن يكون لهم سلف أو أصول يمكن أن يرجعوا إليها، ‏وهي فئة العصرانيين أو الحداثيين أو الليبراليين، ما يجعلهم مقطوعي الصلة مبتوتين عن أوضاع المجتمع الإسلامي، وإن حاولوا ‏الاستناد على المعتزلة الذين قدموا العقل في أمور كثيرة على الكتاب والسنة، فكانوا لهم سلف من هذه الناحية، فلذلك يكثر ‏من هذه الفئة المديح والتبجيل لهم، ومحاولة إحياء تراثهم، حتى صار الثناء على المعتزلة يمثل علامة بارزة لأصحاب هذه ‏الاتجاهات. ‏

لقد وفرت الحملة الأمريكية الظالمة التي تشنها هي وأحلافها-على ثبات الدين الإسلامي في محاولة لتفريغه من ‏مضمونه، أو تطويره الذي يعني تغييره وتبديله، متذرعة في ذلك بما ابتدعته وروجت له باسم الحرب على الإرهاب، وقد ‏قدمت العديد من مراكز أبحاثهم توصيات لتحيق ذلك كتقوية الفئات المبتدعة أو الفئات الليبرالية والاتصال بهم، وفرضهم ‏على الأنظمة، والسماح بإدخال بعضا من أطروحاتهم ومفاهيمهم للدين لتكون جزءا من المناهج التعليمية،-وفرت شروطا ‏لنجاح أصحاب تلك الفرق في مشروعهم التخريبي، الذين عملوا على الاستفادة من هذه الأوضاع، واستغلال حالة الضعف ‏الشديدة التي تمر بها الكثير من الأنظمة الإسلامية، والتي لم يعد يشغلها سوى الحفاظ على مكاسبها وأوضاعها.‏

وقد تعرض المنهج السلفي في عصرنا على أيديهم إلى مناوأة شديدة على مختلف الأصعدة ويمكن تقسيم الحديث عن ‏حربهم للسلفية إلى ثلاثة محاور :‏

الأول :المرجعيات أو المصادر (الكتاب-السنة-الإجماع)‏

الثاني :منهج التعامل العلمي والعملي.‏

الثالث :رموز ورجالات المنهج السلفي.‏

وقد حظي كل محور من هذه المحاور بحملة من الهجوم والقدح لمحاولة إفراغه من مضمونه، أو إسقاطه من نظر ‏المسلمين.‏

حرب المرجعيات :تمثلت هذه الحرب في محاولة تهميش مكانة الكتاب والسنة والإجماع باعتبارها الأصول الضابطة التي يرجع ‏إليها عند الاختلاف، وذلك من خلال الحديث عن: ‏

‏1.‏ تعددية القراءة للنصوص الشرعية، بمعنى أن النص الشرعي يمكن فهمه بأكثر من طريق، أو أسلوب، مما يسمح ‏بالوصول إلى نتائج مختلفة أو متباينة، وأحقية كل واحد أن تكون له قراءة خاصة به، يفهم من خلالها النصوص بلا ضابط ‏يضبط ذلك، سوى الحديث عن موافقة العصر ومجاراة التطور، وعدم التحجر أو مخالفة العقل، من غير اشتراط لأي ‏إمكانيات أو مؤهلات علمية تعين على الفهم والاستنباط، وهم في ذلك متأثرون بالنظرة الغربية لكتبهم المقدسة التي فقدت ‏قداستها لكثرة ما وقع فيها من الخلط والاضطراب، الذي هو أحد نتائج التحريف الذي تعرضت له تلك الكتب على أيدي ‏أتباعها.

‏2.‏ إهمال مكانة أصحاب التخصص في العلوم الشرعية في الفهم والاستنباط، تحت زعم نفي الوصاية والقداسة، ومن ‏هذا المنطلق، انفتح الباب على مصراعيه لكل دخيل دعي يزعم أحقيته في مخالفة المستقر المعلوم الذي دلت عليه النصوص، ‏وأيدته أقوال أهل العلم على مدى القرون، وهم في ذلك أيضا متأثرون بالنظرة الغربية لعلماء دينهم الذين جعلوا من أرائهم ‏ومعارفهم المحدودة، شرعا ودينا يضاهي ما نزل من عند الله العلي الكبير، فقامت لأجل ذلك في الغرب حركات للإصلاح ‏الديني من أشهرها حركة "مارتن لوثر"، حيث دعا إلى رفع وصاية القساوسة عن "الكتاب المقدس" وأن تتاح قراءته لجميع ‏النصارى بعيدا عن التقيد بشروحات أو أفهام القساوسة والرهبان.

‏3.‏ تاريخية الشريعة بمعنى ربط النص بالحادثة أو الواقعة التي جاء فيها، بما يعني إخراج الشريعة عن عمومها وشمولها، ‏وهو ما يعني في حقيقته نسخ الشريعة، وإذا لم يكن النسخ كاملا عند بعض هؤلاء، فعلى الأقل نسخ كل ما يتعارض من ‏الشريعة مع ما يعدونه من قيم التحضر والمعاصرة، انطلاقا من أن تلك النصوص المتروكة إنما هي نصوص تاريخية ليست عامة ‏أو شاملة، فصارت هذه القيم بمنزلة المحكم الذي يُقدَّم على غيره، وتحرف لأجله النصوص الواضحة المحكمة باسم التأويل.‏

حرب المنهج العلمي : وذلك من خلال :‏

‏1.‏ الاعتداد الزائد عن الحد بالعقل وتقديمه على النص، فإذا تعارض ما دل عليه الشرع مع ما دل عليه العقل، كان ‏ما دل عليه العقل هو المقدم، ‏

‏2.‏ تأسيس الأحكام على ما يتصور أنه مصلحة من غير مراعاة لأية قيود أو ضوابط سوى مجرد المصلحة.‏

‏3.‏ الخروج على الضوابط الشرعية والتفلت من الاتباع بدعوى التيسير، فأصبح لفظ التيسير هو الصخرة التي تحطم ‏بها الضوابط والقيود والحدود، وتخالف بها النصوص الصريحة في دلالاتها

حرب الرموز : ‏

أما الرموز فهي القيادات المتبعة للمنهج السلفي والداعية إليه والمقررة لأصوله، ويكون ذلك بالطعن فيها بنبزها ‏بالتحجر والانغلاق، وعدم معرفتها بالواقع، وعدم الانفتاح على قيم العصر، وأن هذه القيادات لم تعد مما يصلح في حقبة ‏العولمة التي تحول فيها العالم إلى بقعة كبيرة متجانسة متصلة ببعضها اتصالا وثيقا على رغم بعد المسافات بينها، ومحاولة حصر ‏المنهج في عدد من الأشخاص وكأنهم هم الذين حاؤوا به أو ابتدعوه، وليس هو منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، ‏فتراهم يحصرون المنهج السلفي في العصر الحديث في الشيح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ومن قبل يحصرونه في ‏شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في حين أن هؤلاء الأعلام لم يكونوا أكثر من مقررين ‏لمنهج السلف، ناقلين له، وداعين إليه، فلم يكونوا منشئين له، والدليل على ذلك أنك تجدهم يستدلون على ما يقررونه ‏بكلام المتقدمين من أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتَّبَعين كأبي حنيفة ومالك والليث والشافعي وابن حنبل ‏والبخاري والطبري وابن عبد البر والآجري واللالكائي والهروي والدارمي وابن مندة، وغيرهم كثير ‏

ساحات العمل :‏

لقد بان أن على أصحاب المنهج السلفي أن يجاهدوا في ساحة عمليات واسعة، تشتمل على عدة جبهات كلها ‏مفتوحة في آن واحد، ولا شك أن تعدد الجبهات واتساعها من شأنه أن يضعف القوة المواجهة ويشتتها، كما قد يورث ‏نوعا من البلبلة والتداخل بل وربما التعارض أحيانا، وليس هناك من خيار في مواجهة تلك الجبهات جميعا، لكن قد يمكن ‏التأجيل بعض الوقت مع بعض الجبهات، وتقديم مواجهة الأخطر على الخطير إذا لم يمكن استيعاب الجبهات جميعا، كما ‏يمكن تقسيم العمل بحيث تتفرغ مجموعة لمواجهة طرف من أطراف الهجوم على المنهج السلفي، بينما تتفرغ مجموعة أخرى ‏لمواجهة طرف ثان وهكذا، ويتبين من هذا أن الساحة تتسع لكل فصائل التيار السلفي بالمشاركة دون المزاحمة، والجبهات ‏المفتوحة لمحاربة المنهج السلفي هي :جبهة الشيعة، جبهة الصوفية، جبهة تيار الحداثة بكل فصائله، جبهة الغلاة الذين يغالون ‏في المنهج السلفي، وفي المقابل لهم فئة المتخاذلين أمام جبروت الظالمين وكلهم يزعم اتباع المنهج السلفي، وهم رغم تناقضهم ‏الشديد إلا أنهم وجهان لعملة واحدة، هي البعد عن المنهج السلفي إما بالغلو فيه، وإما بالجفاء عنه.

التحديات التي تواجه الدعوة السلفية: هناك العديد من التحديات التي تعترض مسير الدعوة إلى المنهج السلفيي، والتي يمكن ‏النظر إليها من خلال جهة التحدي : فهناك تحديات دولية، وهناك تحديات محلية، كما أن هناك تحديات داخلية، نذكر منها ‏ما يلي :‏
التحديات الدولية : ‏

تتمثل التحديات الدولية في الحملة العالمية المعلنة على الإرهاب، والتي تحاول الربط ظلما وافتراء بين الإرهاب والمنهج ‏السلفي، فاتِّباع المنهج السلفي يعد في نظر أصحاب هذه الحملة من الإرهاب الذي ينبغي محاربته، ويعدون المنهج السلفي هو ‏منتج الإرهاب، ولا يستثنون من ذلك إلا ما يدعونه بأنه معتدل، والاعتدال عندهم ليس هو ما ينافي الغلو، ولكن الاعتدال ‏هو القبول بالقيم الغربية والدعوة إليها، أو عدم معارضتها، فأتْباع المنهج السلفي-عندهم-إما إرهابيون بالفعل، وإما ‏إرهابيون بالاستعداد، مما ترتب عليه ضغط الحكومات الغربية على كثير من الأنظمة الإسلامية للتضييق على الاتجاه السلفي ‏ومحاصرته، وذلك عن طريق إلغاء التعليم الديني أو التضييق عليه، وتقييد النشاط الدعوي السلفي،وتقليص الدعم المادي إلى ‏حدود متدنية، ولا يبعد عن ذلك تلك الهجمة الشرسة على المؤسسات الخيرية الإسلامية التي تقوم بالعمل الخيري بين ‏المسلمين، وهذا يؤثر بلا شك على الدعوة السلفية حيث يجعلها في دائرة الاتهام في نظر المخدوعين بهذه الحملة الظالمة، مما ‏يصد الكثير من المسلمين عنها.‏

وفي تقرير شيرلي بينارد الذي أعدته مؤسسة راند لمقاومة الإسلام في شخص المتمسكين به، قدَّمتْ عدة من ‏التوصيات لصانعي القرارات فمن ذلك :أن الصوفية تمثل تأويلا فكريا منفتحا للإسلام، ويجب أن يتم تشجيع التأثير الصوفي ‏بقوة في البلدان التي لديها تقاليد صوفية مثل العراق وأفغانستان، وذلك من خلال التأثير في مناهج التعليم وقيم المجتمع ‏وثقافته، حيث إن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وفلسفية تمثل جسرا للخروج من الاندماج الديني، ومن ‏ذلك يجب دعم الحداثيين في المقام الأول وذلك من خلال تغليب نظرتهم للإسلام..ويجب العناية بهم وتقديمهم إلى الرأي ‏العام على أنهم يمثلون الوجه المعاصر للإسلام، ومن ذلك تشجيع العلماء من أنصار الحداثة في تأليف الكتب وإعداد المناهج ‏الدراسية، ومنه الاستفادة من وسائل الإعلام الإقليمية للتعريف بأفكار وممارسات أنصار الحداثة المسلمين، ومن ذلك العمل ‏على تأهيل نماذج قيادية يقتدى بها، ومن ذلك مشاركة الغالبية من المسلمين من أنصار الحداثة في المناسبات السياسية ‏ليصبحوا حقيقة سكانية ماثلة للعيان ، إلى غير ذلك من التوصيات، التي تأخذ طريقها إلى التنفيذ في واقع المجتمعات ‏الإسلامية. ‏

التحديات المحلية :‏

وأما التحديات المحلية فكثيرة منها :سيطرة كثير من مروجي بضاعة الغرب الفكرية على مواقع التأثير، والذين يرون أن ‏في التمسك بالمنهج السلفي والمحافظة عليه خطرا يهدد سلامة المجتمع وأمنه وتآلفه، ولذلك يدعون إلى التخلي عن هذا المنهج ‏وتجاوزه، واستغلال واقع العالم المناوئ للمنهج السلفي في كسب أرض جديدة، والضغط على الأنظمة لابتزازها في التصدي ‏للدعوة السلفية،واستعداؤها عليها بزعم الخطورة على استقرارها، والتخويف بالعالم الغربي.‏

‏ ومن ذلك السماح للاتجاهات المنحرفة إسلاميا كالشيعة والصوفية وتيارات الحداثة في الدعوة إلى انحرافاتهم، ومن ‏ذلك تجاهل أصحاب الدعوة السلفية في كثير من المجتمعات، وإبعادهم عن مراكز التأثير، والحيلولة بينهم وبين المناصب العليا ‏في مؤسسات الدولة المهمة، وعدم إشراكهم في حركة التصحيح والإصلاح، بل حجبهم عن ذلك ومنعهم منها، مما يؤثر ‏على قدرتهم في إصلاح مجتمعاتهم ويحول بينهم وبين الانفتاح على شعوبهم.‏
‏ ومنه جهل كثير من الشعوب الإسلامية بحقيقة دين الإسلام، مما أدى إلى اختزال الإسلام على شموله وعمومه في ‏بعض أركانه عند فريق، وفي مستحباته عند فريق آخر، بل بلغ الاختزال إلى مجرد الانتساب إليه، فالإسلام عندهم هو ‏الانتساب إليه، ولو لم يقم بأيٍّ من فرائضه، وقد ترتب على هذا الاختزال أن انحرفت كثير من العقول عن جادة الطريق ‏وتعلقت بسفساف الأمور، ولا شك أن هذا الاختزال عند الكثيرين يجعلهم ينظرون إلى دعاة المنهج السلفي وكأنهم قد أتوا ‏بدعوة جديدة، وليس تجديدا لمفهوم الدين الصحيح.‏

‏ ومن التحديات الخطيرة التي يظهر أنها مرشحة بقوة في الفترة القادمة لمواجهة المنهج السلفي، الإغراء بلعبة الحل ‏الديمقراطي والانتخابات، مما قد يغري طائفة كبيرة من الناس بالتحول إلى ذلك الخيار خاصة مع التضييق على المنهج ‏السلفي، فيذهب الناس إليه على أنه متنفس لهم، يحاولون عن طريقه تحقيق ما يمكن تحقيقه، وإذا كان من الممكن تحقيق بعض ‏الإيجابيات من ورائه على المدى القصير، فإن سلوك هذا الطريق والتعويل عليه سيكون على المدى الطويل حائلا عن اجتماع ‏المسلمين على متابعة الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام، ولذلك فإننا نجد ضغطا غربيا على الدول العربية والإسلامية لفتح ‏هذا الباب حتى آخر مداه، ولا يكون ضغطهم هذا لخير الأمة فقد قال الله تعالى في وصف حالهم :" َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ ‏تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا ‏لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ"، والآيات في ذلك كثيرة، وإنما يضغطون لما يعود عليهم من النفع من وراء ذلك.‏

التحديات الداخلية :‏

وأما التحديات الداخلية فهي تتمثل في التحديات الآتية من داخل التيار السلفي نفسه، فمن ذلك :تقدير بعض ‏الفصائل لنفسها تقديرا زائدا عن الحد حتى لترى أنها الفرقة الناجية دون ما سواها من المسلمين، ومن ثم النظر لكل من ‏خالفها على أنها من الفرق المذمومة، ومن ذلك وسْم المنهج السلفي بسمات ضيقة مما يترتب عليه أن يُخرج كل فصيل من ‏المنهج السلفي الفصيل المغاير له في الفهم ولو في بعض القضايا الفقهية، ومنه اختزال العمل الدعوي كله في العناية ببعض ‏المسائل العلمية، وتحقيقها وشرحها والدعوة إليها.‏

ضوابط وآليات في المواجهة :‏

أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الأمناء على هذا الدين وهم من يقع على كاهلهم ‏أمانة تبليغه والمحافظة عليه، وهم الذين عناهم الرسول ‏صلى الله عليه وسلم بقوله :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ‏خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "‏ ، وهم المناط بهم مواجهة الخارجين عن هذه الشريعة أو الزائغين عنها، وهناك أمور ‏مهمة يحتاج إليها المسلم على الدوام في رد عادية المعتدي، فمن ذلك :‏

‏1.‏ الجهر بالحق والمفاصلة عليه مع من يبغضون الحق ويكرهونه، وعدم الضعف في ذلك أو التلون أمام ضغوط الإكراه ‏أو الإغواء، وقد الله تعالى لرسوله وهو في مكة :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ ‏تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس:104]، وقال له :"قُلْ يَا ‏أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" [الكافرون:2،1] وهو قول له ولكل من اتبعه وسار على منهاجه، ولكن ينبغي الحذر ‏من البغي أو الاستطالة على الآخرين.‏

‏2.‏ كشف المحاربين للدعوة السلفية والذين يتدثرون ببعض أرديتها، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، لكن من غير ‏أن يُظلم أحد أو يُتهم بغير بينة ودليل يرشد إلى ذلك.‏

‏3.‏ عدم الفتور في نشر المنهج السلفي وجمع الأمة عليه، والتماس كل طريق صالح يؤدي إلى ذلك، فإن الدعوة السلفية ‏دعوة للاجتماع على الحق قولا وعملا.‏

‏4.‏ تحديث وسائل الدعوة ومواجهة الخارجين على المنهج السلفي بأساليب ووسائل صحيحة مقبولة وفق قواعد المنهج ‏السلفي، مع عدم الانسياق وراء ما تروجه وسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين عن الخيار الديمقراطي. ‏

‏5.‏ الثبات على الحق وعدم المداهنة أو الخضوع والخنوع :من عوامل قوة المنهج السلفي الثبات على الحق، وفي أجواء ‏الحملة المضادة ربما يحاول بعضهم أن ينحني للعاصفة حتى لا تقتلعه، وإذا كانت قواعد السياسة الشرعية تسمح ‏للمسلم أن يؤخر الدعوة إلى أمر من الدين إذا علم أنه لا يقدر على ذلك، فيؤخره إلى حين التمكن، لكن لا ينبغي ‏له المداهنة والموافقة على بعض الباطل في مقابل أن يُسمح له ببعض الحق، فالسكوت عن التكلم بالحق إذا لم يكن ‏ذلك مقدورا أولى من النطق بالباطل وقد حذر القرآن من ذلك المسلك فقال تعالى :"وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" ‏‏[القلم:9] وقد بين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى معنى ذلك فقال :"ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في ‏دينك بإجابتك إياهم، إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك"‏ ، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى ‏‏:"ودوا لو ترفض بعض أمرك، فيرفضون بعض أمرهم"‏ ، فالمنهج السلفي يأبى الصيغ التوافقية التي يترتب عليها ‏الإقرار ببعض الحق بجانب بعض الباطل، أو التخلي عن بعض الحق في مقابل أن يتخلى أهل الباطل عن بعض ‏باطلهم، ونلحظ في هذا المجال في أيامنا هذه محاولة إدخال كثير من الألفاظ والتعابير وحشرها بعجرها وبجرها في ‏نسيج الأمة الثقافي من غير أي تمييز، وموافقة كثير من الناس على ذلك أو السكوت عليه، كما نلحظ اتهام من يميز ‏هذه الألفاظ ويبين ما فيها من الصواب وما فيها من الخطأ، فمن هذه الألفاظ التي غزت ثقافتنا التسامح أو الإخاء ‏الديني، والاعتراف بالآخر المختلف ثقافيا وعقديا، ونبذ التعصب والكراهية للآخر المختلف، والبحث عن المشترك ‏الإنساني والتعاون لخير الإنسانية، وفي المقابل نجد عملية تغييب مقصودة لكثير من المصطلحات الشرعية مثل الولاء ‏والبراء، ودار الحرب ودار الإسلام، وأحكام أهل الذمة.‏

‏6.‏ الصبر وعدم الضجر واستعجال النتائج :إن مشروعا ضخما كمشروع المنهج السلفي يحتاج إلى جهد ومثابرة ‏ومكابدة وطول زمان، والاستعجال يقوض العمل ويفسد النتائج، فالزلل يلازم المستعجل، لكن عدم الاستعجال لا ‏يعني التراخي والكسل، بل الجد والاجتهاد والحرص كلها أمور مطلوبة في ترسيخ هذا المشروع الكبير، وقد قال ‏نوح عليه السلام :"إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً وقال :"ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ ‏إِسْرَاراً" مما يبين حرصه الشديد وجهده المتواصل، وكذلك الأنبياء من بعده، وعلى رأسهم سيد البشر ‏ صلى الله عليه وسلم فلم ‏يستعجل إذ ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاما من غير استعجال النتائج، ولكن مع الجد والاجتهاد في الدعوة حيث ‏كان يلقى الناس في المواسم ويعرض عليهم دعوته، كما خرج من مكة إلى الطائف يدعو إلى ربه، فلم يكن عدم ‏الاستعجال مدعاة للتواني أو الخمول، وكان ‏ صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه إلى عدم الاستعجال، فعندما قال له خباب رضي الله ‏تعالى عنه وهم يُضيق عليهم في مكة :ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا, قال لهم بعدما ذكر ما كان يلاقيه المسلمون ‏السابقون من أقوامهم :"والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو ‏الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"‏ ‏.‏

لكن هناك ضوابط لا بد مراعاتها في هذه المواجهة والتي منها :‏

‏1.‏ العدل والإنصاف، فلا يجور على المخالف، ولا يعاملهم بمثل ما يعملون من الكذب والغش والخيانة، قال الله ‏تعالى :"ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، والعدل والإنصاف مطلوب مع كل أحد سواء ‏كان من أهل السنة والجماعة، أو كان من أصحاب الفرق، أو كان من غير المسلمين، وأما من كان يفترى على أصحاب ‏المنهج السلفي فإن الله تعالى يرد كيده في نحره ويخذل المفترين قال الله تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن ‏رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " [الأعراف :152] فبين الله تعالى أن هذه العقوبة جزاء لكل مفتر. ‏

‏2.‏ اتباع الظاهر وعدم التنقيب عن البواطن، فإنه لا سبيل إلى الاطلاع على البواطن إلا للذي يعلم السر وأخفى، ‏لكن ينبغي مع هذا عدم الغفلة عن القرائن التي تنبئ عما وراءها، كما قال تعالى :" وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" [محمد :30]، وإذا كانت هذه القرائن لا تصلح لإصدار حكم على صاحبها، ‏لكنها تصلح للاحتراز والاحتراس منهم، وهو معنى ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه :"احترسوا من الناس بسوء الظن" ‏والحسن البصري ومطرف بن عبد الله من التابعين، وكذلك ما ورد في أمثال العرب من قول القائل :أخوك البكري فلا ‏تأمنه.‏

‏3.‏ عدم المبالغة أو الغلو في الأحكام :فمن المعروف أن أحكام الشريعة ليست كلها على وزان واحد، فمنها ما هو ‏معلوم من الدين بالضرورة، ومنها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه والخلاف ضعيف، ومنها ما هو مختلف فيه ‏والخلاف قوي، وكل نوع من هذه الأنواع له أحكامه المترتبة على وضعه، ولا ينبغي إنزال الجميع منزلة واحدة بحيث تعامل ‏المسائل المختلف فيها كما لو كانت مسائل إجماعية، ولا تعامل المسائل المشهورة كما لو كانت معلومة من الدين ‏بالضرورة، كما لا ينبغي حمل الناس على مذهب واحد في العلم والفتيا في المسائل الاجتهادية.‏

ويتبين مما تقدم أن أصحاب المنهج السلفي أهل السنة والجماعة بحاجة إلى وحدة الصف وعدم التنازع وتفريق الجهود، ‏والثبات على الحق ورفض المساومة عليه، والجد والاجتهاد واحتمال الأذى في العمل لهذا الدين، وبيان فساد الدعوات ‏المخالفة، وبيان ارتكانها على المشاريع الغربية الساعية لتقويض صرح هذا الدين، حتى يحذرهم الناس على دينهم ودنياهم، ‏والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

كتبه محمد بن شاكر الشريف

الأحد، 21 أبريل 2013

السلفية .. توضيحات وتنبيهات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

بدأ في الآونة الأخيرة يبرز مفهوم السلفية على الساحة وفي أوساط عدد غير قليل من المسلمين وأثار هذا المصطلح الكثير من الجدل، وتردد على الأسماع، وتساءل الكثير عنه، وأثيرت شبهات حول هذا المصطلح أو حول المنهج السلفي منهج أهل السنة والجماعة، فهل لهذا المفهوم أو المصطلح أصل في الشرعية؟ وهل ما يثار حوله من جدل أو شبهات لها أساس من الصحة.

في هذا الموضوع نريد أن نبين باختصار المفهوم الصحيح للسلفية والرد على أهم أو بعض ما ورد من شبهات حول هذا المنهج.

بادئ ذي بدء لو تأملنا حولنا من التجمعات البشرية وغيرها من أنواع المخلوقات من حيوان ونبات نجد أنه قد أطلق عليها ألقاباً وقد تميزت بشعارات تعرف به وخاصة الألقاب التي ترجع إلى وصف أو دين أو مذهب أو لون أو بلد أو قبيلة أو شعب من الشعوب.

فالألقاب والأنساب إلى الأديان والبلدان والمهن ظاهرة بشرية، المقصود منها التعارف، وأن أحكامها تختلف باختلاف مضمونها وموقف الدين منها، ولا يمكن أن نبني حكما صحيحا عن مصطلح قبل أن نتصور مفهومه وكما يقول علماء الأصول (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) (1)، فإذا أردنا أن نحكم على مذهب أو عقيدة أو لقب فلا بد أن نتصور مفهومه عند أهله أولاً، ثم ننظر في الكتاب والسنة لنلتمس حكم الله فيه من الوجوب أو التحريم أو الكراهة أو الندب أو الإباحة، فمثلاً إذا أردنا أن نصدر حكماً على المذهب الاشتراكي أو الشيوعي كمذهب إلحادي فلا بد من معرفة ماهيته، ثم ننظر في حكم الله فيه، وهكذا إذا أردنا أن نحكم على الخوارج مثلاً كمذهب يزعم أهله أنه إسلامي فلا بد من تصور مذهبهم، ثم الحكم عليه بما يستحقه شرعاً وهكذا سائر المذاهب والفرق، وكذلك السلفية التي هي موضوعنا.

فالسلفية في اللغة هي نسبة إلى السلف وهم (من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل) (2) و(السلف المتقدمون، وسلف الرجل: أبواه المتقدمان) (3).

أما في الاصطلاح فتدور كل التعريفات للسلف حول الصحابة، أو الصحابة والتابعين، أو الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الأعلام المشهود لهم بالإمامة والفضل واتباع الكتاب والسنة.

يقول القلشاني: (السلف الصالح، وهو الصدر الأول الراسخون في العلم، المهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، الحافظون لسنته، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، وانتخبهم لإقامة دينه ورضيهم أئمة الأمة، وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده وأفرغوا في نصح الأمة ونفعهم، وبذلوا في مرضاة الله أنفسهم، قد أثنى الله عليهم في كتابه.. فيجب اتباعهم فيما نقلوه، واقتفاء آثارهم فيما عملوه، والاستغفار لهم) (4).

ويقول الشيخ محمود خفاجي: (وليس هذا التحديد الزمني كافيا في ذلك، بل لابد أن يضاف إلى هذا السبق الزمني موافقة الرأي للكتاب والسنة وروحها، فمن خالف رأيه الكتاب والسنة فليس بسلفي وإن عاش بين أظهر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) (5).

ويقول الشيخ ابن حجر القطري: (وعلى ذلك فالمراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف، كالأئمة الأربعة، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر أصحاب السنن دون من رمي ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضي مثل: الخوارج، والروافض، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة) (6).

فالسلف إذن مصطلح يطلق على الأئمة المتقدمين من أصحاب القرون الثلاثة الأولى المباركة، من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين المذكورين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) (7) فكل من التزم بعقائد وفقه وأصول هؤلاء الأئمة كان منسوباً إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان. وكل من خالفهم فليس منهم وإن عاش بين أظهرهم وجمعه بهم نفس المكان والزمان.

وكل من اتصف بهذا الوصف نفى عن نفسه أن يكون خارجياً يستحل دماء المسلمين بالمعصية أو أن يكون رافضيا يكفر الصحابة ويلعنهم أو متأولاً محرفاً لكلام الله تعالى أو قبوريا أو حلوليا أو اتحاديا أو متعصباً لإمام بعينه ولو خالف الدليل إلى غير ذلك من المعاني، إذن فهو مصطلح يقصد به تجديد الدين وإحياؤه لكي يعود غضاً طريا كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فهمه أصحابه رضي الله عنهم وهي كلمة يُقصد بها ببساطة تجريد التوحيد لله عز وجل وتصفيته مما علق به من شوائب البدع وتجريد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقصد بها تزكية النفوس وتطهيرها، ولا شك أن كل هذه المعاني تفرز مسلماً جاداً يعرف حدود الله عز وجل ويعظم شعائره ويقف حيث أوقفه الله يأتمر بامره وينتهي بنهيه.

فالسلفية إذن موجودة وضاربة بجذورها إلى جيل الصحابة بل إن السلفيين هم التدفق والامتداد الطبيعي لجماعة المسلمين الأولى فكل مولود يولد في الإسلام هو منسوب بالأصالة وبالجملة إلى هذا المنهج إلا إذا أعلن مفارقته وتميزه عن هذا المنهج؛ إما بأفكاره ومعتقداته أو سلوكه وأفعاله.

ومن العجب أن يعترض على هذا اللقب الشريف الذي يعمق صلتنا بسلفنا الصالحين الماضين، في حين تنتشر في كل اتجاه الفرق التي تحمل الألقاب المستهجنة شرعاً، وبعضها يرجع أصله إلى مذاهب إلحادية ولا نسمع حولها أي اعتراض أو استنكار.

والذي يتأمل هذا التعريف لا يجد مانعاً شرعيا يمنع من هذا اللقب لسلامة مدلوله من المحاذير الشرعية، بل ولتضمنه مقصداً من المقاصد الشرعية العظيمة ألا وهو أنه يفرض على أصحابه تصور هذا الدين كما كان في صورته الأولى، ورفض الزيادة عليه والنقص، وما أظن أن أحداً يعترض على هذا المقصد من حيث الجملة.

ولقد تسمى بعض المسلمين بالمهاجرين "لأنهم هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم" وبالأنصار "لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم" والتابعين "لأنهم اتبعوا السلف الصالح، فما هو الضير من أن تتسمى مجموعة من الدعاة إلى الله تعالى بالسلفيين" أي الذين يتبعون السلف الصالح، ثم إن هذا المصطلح لم يظهر على الساحة الإسلامية إلا بعد افتراق الأمة إلى فرق وأحزاب فهذا مسلم شيعي وهذا مسلم معتزلي وآخر مسلم أشعري إلى غير ذلك من المسميات التي يدعي أصحابها أنهم على منهج وفهم الصحابة لهذا الدين، فكان لابد من التميز باسم لإظهار الحق وبيانه للناس.

ولقد حصل الاتفاق على أمور ينبني عليها الكلام في صحة هذه النسبة من عدمها، وبيان ذلك أن المسلمين أو على الأقل الحركات الإسلامية متفقون على أن أحوال الأمة الإسلامية اليوم أحوال مزرية ومتدهورة في كل المناحي، وعلى أنها قد تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فنهبوا ثرواتها، وغيروا ثقافتها، وفرقوا صفوفها، وجمدوا نشاطها، وجعلوها في المؤخرة.

ومتفقون أيضاً على أن سبب ذلك هو البعد عن الدين، وأن هذا البعد يتمثل؛ إما في رفض التحاكم إلى هذا الدين، ورد مسائل النزاع إليه، واعتماد مصادر أخرى مغايرة، وإما إلى سوء فهم في تصورنا لقضايا متعددة منه، ومتفقون على أن الحل المخرج لنا مما نحن فيه هو التمسك بديننا، ورجوعنا إليه.

ومتفقون على أن الصحابة والتابعين هم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لتمثيل هذا الدين، وما منا من أحد إلا إذا أراد أن يشيد بأمجاد هذه الأمة، وتاريخها المشرق، وإنجازاتها الحضارية؛ فإنه لا يجد ما يقوله إذا لم يكن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، ومن سار على منهاجهم؛ موضع استشهاده وإشادته، فهم الصفحة المشرقة المحتوية على كل الأمثلة التي نفاخر بها الأمم سواءً من ناحية سلامة المعتقد والتصور والفكر الذي أقاموا به تلك الحضارة وشادوا عليه بنيانها، أو من ناحية العدل وقيم التعامل مع مختلف الأمم التي وجدت نفسها تحت حكمه وقيادته.

وبعد هذا الاتفاق على أحوال الأمة، وعلى ضرورة الرجوع إلى الدين، واعتباره العنصر الرئيس في إحيائها؛ فقد قام كل فريق من هذه الأمة -من المهتمين بالدعوة إلى الله- بما يراه واجباً في دعوته لأمته، وأخذه بيدها لإرجاعها إلى دينها.

فمنهم من يرى أن المنهج الواجب الاتباع هو ما عليه الموروث الصوفي من الاستنجاد بالموتى، والاستغاثة بهم، والاشتغال بإحياء الموالد والأناشيد الدينية، وإحياء طرائق الفرق الصوفية السلوكية كالشاذلية، والرفاعية، والقادرية وغيرها، والدعوة إلى التقليد المذهبي والجمود الفقهي وغير ذلك، مدعين أن الحل لما تعيشه الأمة من الناحية الفكرية والسلوكية هو هذا المنهج الذي هم عليه، وأن هذا هو الدين الذي أمرنا الله باتباعه واعتناقه.. فإذا عرضنا هذه المنطلقات على ما كان عليه الصحابة فإننا لا نجدها في سلوكياتهم وعباداتهم وأعمالهم، بل نجد أحوالهم ضد هذه الأوضاع والطرائق.

وفريق آخر يرى أن الدين هو ما قاله الأئمة المعصومون -في زعمهم- وما فهموه منه وهو مذهب يقوم على تقديس أهل البيت، وطلب الشفاعة منهم، والاستغاثة بهم في الملمات، وقد وصفوهم وصفاً يخرجهم عن الطبيعة البشرية، ويقوم دينهم هذا على الطعن في الصحابة، وتكفير معظمهم، ويقومون بأعمال جاهلية تشوه جمال الإسلام وصفائه مثل: ضربهم لأنفسهم بالسلاسل، وتفجير الدماء من مواضع عديدة من أجسامهم ورؤوس أطفالهم؛ متقربين إلى الله بذلك، زاعمين أن هذا هو دين الله الحق الذي تجب دعوة الأمم إليه.

ومعلوم براءة الدين الإسلامي، وبراءة السلف الصالح -وعلى رأسهم علي رضي الله عنه، وعن أهل بيته- من هذه الأوضاع.

وأتى فريق آخر فزعم أن الدعوة إلى الله والرجوع إليه يكمن في سلوك المناهج الفلسفية، والطرائق الكلامية، والمحارات العقلية في الدفاع عن العقائد الدينية، والأحكام الشرعية، أمام الهجمات الفكرية الصليبية والاستشراقية، وأن النصوص الشرعية لا تكفي في هذا الباب، لأن القضية عقلية، والنصوص الشرعية مساعدة فقط لا يعتمد عليها، ولا تنفرد بالتأصيل لهذه القضايا، وأعادوا دعوة أسلافهم إلى تلك المناهج ممن أطلق عليهم لقب أهل الكلام مع علمهم بمخالفة السلف الصالح لها، وتحذيرهم منها.

وفريق آخر أذهلته الحضارة الغربية بوسائلها المادية، وطرائقها السياسية والاجتماعية، ومظاهرها المدنية، بل ومناهجها الفكرية؛ فصار مجنوناً بها يهذي في كل الأوقات بالإشادة بها، داعياً إليها، ساعياً إلى التوفيق بينها وبين خصائص الحضارة الإسلامية بطرق ملتوية، وتأويلات فاسدة، متألماً من تخلف الأمة عن ذلك الركب، وصار يركب الصعب والذلول في طرق التوفيق، فأتى بما أضحك منه العقلاء.

هذا بالإضافة إلى التوجهات الأخرى مثل: مناهج الأحزاب العلمانية القومية منها والوطنية، والديمقراطية منها والاشتراكية، والتي تشعبت بها السبل، وتفرقت بها الطرق، فلم تزد الأمة إلا خبالاً، ولم تجن الأمة منها إلا مزيداً من التفرق والتشرذم، والعداء والتربص بعضها ببعض.

فأمام هذه التوجهات برمتها فما ذنب من يتبنى في دعوته لأمته الإسلامية طريقة سلفها الصالح في الاعتقادات والعبادات والسلوك، وطرائق التفكير والحكم على الأشياء، معتمداً على كتاب الله وسنة رسوله، رافضاً الاقتداء بماركس ولينين وإنجلز وغيرهم من مفكري اليهود والنصارى قديماً وحديثاً، داعياً أمته إلى التمسك بهذا الدين في العقيدة والشريعة، ففي زمن غربة الإسلام وكثرة المذاهب والفرق المضللة يحتاج المسلمون للتميز بصفة أخص من صفة الإسلام لا تتعارض مع الإسلام؛ لأننا جميعا يضمنا اسم الإسلام وراية الكتاب والسنة لكن التحقق بذلك في وسط هذا الكم الهائل من الفرق الضالة المنحرفة يدعونا أن نقول نحن مسلمون على منهج السلف الصالح أو منهج أهل السنة والجماعة.

ولا يمنعنا ذلك الاقتباسُ من هذه الحضارات من العلوم الإدارية، والاستفادة من تكنولوجيا العلوم المختلفة، والثورات المعلوماتية، والسباق في الإحاطة بهذه العلوم، والمشاركة في الإبداع فيها، والإتيان بجديدها العربي والإسلامي؛ لأن هذه العلوم الآلية لا تختلف باختلاف الثقافات والأديان والعقائد.

وإذا تم لنا ذلك فنحن لا نجعل اسم السلفية "شعاراً بديلاً عن الإسلام بل السلفية بالنسبة للإسلام هي الفهم الصحيح له فقط فلا تعارض بين الإسلام والسلفية.

لكن ثمة أمور ينبغي التنبيه عليها وهي:

أولاً: ينبغي أن يعلم أصحاب المنهج السلفي أن ولاؤهم للحق وحده؛ فلا يتعصبون لأسماء أو شعارات أو تجمعات أو زعامات فهم لا يتعصبون إلا للإسلام وحده ويوالون ويعادون على أساس الدين والتقوى ومن هذا المنطلق فإنهم ينظرون إلى كل فرد أو طائفة أو تجمع على هذا الأساس وحده وليس على أساس التعصب الجاهلي للقبيلة أو المدينة أو المذهب أو الطريقة أو التجمع أو الزعامة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف... فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان. ومن كان كافرا وجبت معاداته من أي صنف كان... ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي، كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة) (8).

ويقول: (بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان) (9) ويقول أيضاً: (وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة، وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا) (10).

ثانياً: ينبغي أن تراجع السلفية أنفسها وصفوفها؛ لأنه قد يختطف السلفية بعض الأدعياء وقد توجد منهم أحداث شاذة يقوم بها مغامرون أو يقوم بها جهلاء أو سفهاء تؤدي إلى تشويه المنهج أو على أقل الأحوال تشويه صورة القائمين على المنهج السلفي، ومثل هذه المواقف لا تمثل السلفية في شيء وليست من دين الله تعالى في شيء.

ثالثاً: على أصحاب المنهج السلفي أن يحذروا حمية الجاهلية بأن نتصور أن كل من انتسب إلى المنهج السلفي أصبح فوق الناس أو أعلمهم فهذه النظرة هي التي تحدث الانشقاقات والاختناقات والفرقة بين العاملين للإسلام من جهة وبين أصحاب المنهج السلفي وبقية المسلمين من جهة أخرى، والذي يجب علينا هو أن نحكم على الناس باتباعهم للكتاب والسنة لا لانتمائهم لدعوتك أو جماعتك؛ فالمنهج هو الميزان الذي نوزن جميعا به ونتحاكم إليه.

رابعاً: ينبغي على أصحاب المنهج السلفي من استفاضة البلاغ والدعوة إلى الله تعالى بالحسنى؛ لأن الكلمة هي الخط الأصلي الساخن للتواصل بين أصحاب المنهج السلفي والمدعوين لاسيما عندما تقف السلطة السياسية أو وسائل الإعلام حائلاً بين أصحاب المنهج الصحيح لدين الله وبين من يدعونهم؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا ويتم ذلك بصور مختلفة سواء كان ذلك في الدروس أو المحاضرات أو على المنابر التي نصل من خلالها إلى الناس.

خامساً: أصحاب المنهج السلفي من أجل صفاتهم أنهم خير الناس للناس فهم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولاشك أن من أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن أخلاق النبوة -من الرحمة ومحبة الخير للناس واحتمال أذاهم والصبر على دعوتهم إلى غير ذلك- هي المنبع الذي يستقي منه أصحاب المنهج السلفي خصائصهم السلوكية والأخلاقية والتي لا تقل أهمية في منظور الحق عن ميراث العلم والهدي ولذلك لابد لأصحاب هذا المنهج من أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، وأن يشاركوا الناس همومهم وأوجاعهم اليومية والمسلم الذي يبتلى بمشكلة إن لم يشعر أن أصحاب هذا المنهج بجواره في مشكلته فلن ينشرح صدره ولن ينفتح قلبه ولن يستمع إليهم، ولا شك أن مما يفتح مغاليق القلوب مشاركة أصحاب المنهج السلفي الناس في تخفيف آلامهم وأوجاعهم.

سادساً -وأخيراً-: ينبغي أن نفرق بين السلفية أو المنهج السلفي وبين السلفيين؛ فالسلفيون بشر من البشر يصيبون ويخطئون غير معصومين يطرأ على أحدهم الخطأ وإن كان من الأئمة الأعلام الذي يشار إليهم بالبنان، أما المنهج أما الدين فهو فوق الجميع لا يعتريه الخطأ.
كتبه عصام خضر
---------
الهوامش:

1- انظر: شرح الكوكب المنير 1/50.

2- لسان العرب ج 9 ص 158.

3- تحرير المقالة من شرح الرسالة ص 36 نقلا عن (المفسرون بين التأويل والإثبات) للمغراوي ج 1 ص 18.

4- المصدر السابق.

5- العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة ص 21.

6- العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية نقلاً عن (المفسرون بين التأويل والإثبات) للمغراوي ج 1 ص 19-20.

7- أخرجه البخاري رقم 2509.

8- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 28ص 227- 229.

9- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 3 ص 416.

10- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 28 ص 209.
--------
المراجع:

1- أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى جمع وإعداد محمد عبد الهادي المصري.

2- حوار للشيخ عبد المجيد الريمي مع صحيفة الرشد اليمنية.

3- السلفية إصلاح مفاهيم ورد شبهات للشيخ صلاح الصاوي حوار أجراه خالد عبدالله بقناة الناس.

الجمعة، 19 أبريل 2013

السلفيون والدعوة إلى الله


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله -عز وجل- من أجلِّ العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه -سبحانه وتعالى-؛ لأنها نشر دين الله والمحافظة عليه، والذب عنه، ولأنها إبلاغ رسالة الله إلى عباده، ولأن الدعاة واسطة بين الحق والخلق في إبلاغ الرسالة التي جاء بها الأنبياء.
والدعاة هم الذين يبينون عن الله مراده، وهم الذين يفتح الله بهم الأذان الصُّمَّ والقلوب الغلف، ويزيل الله بهم الغشاوة عن أعين الناس، وبهم يتحول الظلام إلى نور، والضلال إلى هدى، وبهم يكشف الطريق السوي المستقيم، فهم دعاة إلى فضل الله ورحمته وإلى جنته، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة، وهم القائمون بوظائف الأنبياء، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). 
والدعوة عبادة أمر الله -تعالى- بها، فقال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، وعلق الله -سبحانه وتعالى- الفلاح عليها، فقال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
فجعل الله -سبحانه وتعالى- الخير في الأمة حال كونها قائمة بهذه الدعوة، وقال -تعالى-: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:114)، فوصف الله القائمين بالدعوة بالصلاح، وقال الله -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:114)، فجعل الله خير الكلام ما كان أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر.
ولقد لعن الله -تعالى- بنى إسرائيل؛ لتركهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، فقال -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).
ولقد بيَّن الله -تعالى- أنه يكتب النجاة في الدنيا والآخرة للقائمين بهذا الواجب، فقال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165).
كما جعل الله فضله ورحمته للقائمين بهذا الأمر فقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
كما بيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- أنه سيجعل التمكين في الأرض للقائمين بهذا الواجب، فقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ولقد ورد بيان فضل الدعوة والدعاة في مواطن كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك: قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)، ومن ذلك: ما رواه مسلم -أيضًا- عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى؛ كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ؛ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا وروى البخاري ومسلم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعلي -رضي الله عنه-: (فَوَاللهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)، وروى الترمذي من حديث أبى أمامة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ).
وقد حذر الله -سبحانه- من التقصير في أمر الدعوة، فقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة:159)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187)، فقال قتادة: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ممن علم شيئًا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم؛ فإنه هلكة!"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) (رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه).
والدعوة إلى الله هي: تعريف الناس بربهم بأسمائه وصفاته، وكيفية الوصول إليه -سبحانه- وما لهم، وما عليهم إذا رجعوا إليه. أو هي: حداء بالناس لمعرفة الله والإيمان به وتوحيده ربًّا خالقًا ومالكًا، وإلهًا معبودًا، وحاكماً فردًا، فلا منازع له في ربوبيته، ولا شريك له في المحبة، ولا مضاد له في حاكميته، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
والدعوة -أيضًا- هي: قيام المسلم ذي الأهلية في العلم والدين بتبصير الناس بأمور دينهم، وحثهم على الخير، وإنقاذهم من شر واقع، وتحذيرهم من سوء متوقع على قدر الطاقة؛ ليفوز بسعادة العاجل والأجل.
وتتميز الدعوة السلفية بأنها دعوة ربانية؛ لأنها تعتمد على أصلين أساسين هما: التوحيد والاتباع.
وهذا ما يجعلها دعوة ربانية في الغاية والوجهة، وربانية في المنهج والمصدر، فأما:
1- ربانية الغاية والوجهة:
فإن الغاية والهدف هو: حسن الصلة بالله، والحصول على مرضاته، وهذه هي غاية الإنسان ووجهته، ومنتهى أمله وسعيه، فهذا هدف الأهداف وغاية الغايات، وإن كان هناك أهداف أخرى إلا أنها تابعة لهذا الهدف الأكبر، والقرآن يقرر هذه الحقيقة بوضوح حين يذكر الغاية من خلق الجن والأنس، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات:57)، وقد أمر الله -تعالى- نبيه أن يعلنها للناس واضحة جلية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين . قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:161-164)، والغاية -إذًا- من وجود الإنسان أن يعبد الله، فينبغي أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده بأن يجعل الله غايته، فلا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئًا.
ومن ثمرات ربانية الغاية والوجهة: أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، فلا يعيش في عمايته، ولا يمشى إلى غير غايته، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره واستبانة لمصيره بعد أن عرف الله وأقر له بالوحدانية.
ومن فوائدها: أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها والتي تتطلب الإيمان بالله.
ومن فوائدها: حصول الأمن والاهتداء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82).
ومن فوائدها: أنها تؤمن النفس من التمزق والصراع والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات؛ لأن الإسلام جعل غاية الإنسان غاية واحدة، وهي: إرضاء الله -تعالى-، وجعل همومه همًّا واحدًّا، وهو: العمل على ما يرضيه -سبحانه-، ولا يريح النفس شيء مثل وحدة الغاية والوجهة، ولا يشقي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته، قال -تعالى- عن نبيه يوسف -عليه السلام-: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف:39).
2- ربانية المنهج والمصدر:
هو أن يكون المنهج من عند الله -سبحانه وتعالى-، فلا تصدر عن شيء إلا جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس -الذي لا يتعارض مع نص أو أجماع-.
وهذا يقتضي: ألا نعارض القرآن والسنة بعقل، أو رأي، أو قياس، أو ذوق، أو وجد، أو مكاشفات.
وكذلك يقتضي: رفض التأويل الكلامي الذي يصرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل.
كما يقتضي: أن نأخذ بظاهر النصوص وما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحف بها من القرائن، وهو: إجراء للنصوص على ظاهرها بدون تحريف.
كما أن هذا المنهج الرباني يقوم على فهم الكتاب والسنة بفهم أعلم الناس بالكتاب والسنة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما تقتضي هذه الربانية: أن لا يكون هناك معصوم إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم.
كما تقتضي هذه الربانية: رفض البدع ومحدثات الأمور في كل صورها وأشكالها، سواء كانت في العبادة أو العقيدة، أو كانت أصلية أو إضافية.
كما تقتضي: ذم التقليد والتعصب المذهبي.
وهذه الدعوة تتسم بأنها دعوة عامة لجميع البشر على اختلاف أشكالهم وأجناسهم وألوانهم، ولغاتهم وعاداتهم وآرائهم، وليست خاصة بأمة دون أمة، كما أن منهجها منهج لكل العصور من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل النسخ ولا الإلغاء ولا التغيير ولا التعديل ولا الإيقاف، ولا التعطيل لظرف من الظروف.
كما أنها دعوة شاملة لكل مناحي الحياة، منظمة لعلاقة الإنسان ربه من الناحيتين: العلمية والعملية، وهى دعوة شاملة لقضايا العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والقيم والمثل العليا، وأسس التعاون والاجتماع على البر والتقوى، كما أنها شاملة لقواعد التربية القويمة، وتنمية روح المراقبة للنفس، وهو منهج يتميز بآلية رفع الحرج.
وينطلق هذا المنهج من كون الدعوة عبادة لله لا بد من تحقيقها والصبر عليها والمثابرة، وبذل الجهد الممكن والمستطاع، وهي تسعى إلى تحقيق أهداف في الأمة والمجتمعات، وهي:
1- تحقيق مرضات الله -عز وجل-.
2- تعبيد الناس لله -عز وجل-.
3- إبلاغ الحق إلى الخلق.
4- حماية الدين.
5- إقامة الحجة على الخلق، وقطع العذر على المخالفين.
6- الإعذار إلى الله -عز وجل- بأداء الأمانة.
7- إصلاح البلاد والعباد.
8- نشر السنة، ومحاربة البدع.

كتبه/ محمود عبد الحميد

السبت، 6 أبريل 2013

التوحيد أولاً.. شبهات وردود






الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمعرفة الله -عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وألوهيته وربوبيته- هو نعيم الحياة، وراحة القلب، وطمأنينة النفس، وجنة الدنيا، فكلما عرف العبد ربه -تبارك وتعالى-؛ ازداد له حبًّا وتعظيمًا وإجلالاً وعبودية، واستراحت نفسه واطمأن قلبه، وعاش المعيشة الهنيئة السعيدة، ولا تطيب الدنيا إلا بمعرفته وذكره وطاعته، كما لا تطيب الآخرة إلا برؤيته، يقول الله -تعالى- لأهل الجنة بعد دخولهم الجنة: (تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-) ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (رواه مسلم)، وفي رواية: (أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه).
والمحور الذي يدور حوله القرآن كله هو الحديث عن الله -تعالى- وصفاته، وأفعاله، وحقوقه، وإكرامه لأهل طاعته، وعذابه لأهل معصيته، وهو الحديث الذي يهز النفوس، ويحرك القلوب، ويزيل الأدران والأرجاس التي تحبس الإنسان عن الخير، قال -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر:23).
"ومعرفة الله، والعلم به هو العاصم من الزلل، والمقيل من العثرة، والفاتح لباب الأمل، والمعين على الصبر، والواقي من الخمول والكسل" "الأسماء والصفات في معتقد أهل السنة".
ومعرفة الله هو أشرف العلوم؛ لأنه علم بأشرف وأعظم وأجل معلوم -سبحانه وتعالى-.
قال الإمام ابن العربي المالكي -رحمه الله- في كتابه "أحكام القرآن": "شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم".
فأفرض فرض، وأوجب واجب على المسلم في العلم والعمل والدعوة إلى الله: معرفة الله -تعالى-، وتعريف الناس بالله وما له من حقوق، وهو ما يسمى بـ"علم التوحيد" أو "العقيدة"، وهو معرفة أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وكانت تسمى هذه المسائل على عهد الصحابة الإيمان، قال جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-: "فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ؛ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا" (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وشهرت بعد ذلك باسم: "السنة"، وكانت مؤلفات علماء أهل السنة في تقرير مسائل الإيمان وتعريفها بهذا الاسم كـ"السنة" لابن أبي عاصم, و"السنة" للبربهاري, و"أصول السنة" للإمام أحمد، وغيرها كثير، وأكثر المصطلحات شيوعـًا في هذا العصر: "التوحيد" أو "العقيدة"، ولابد من البداءة بالتوحيد علمًا وتعليمًا ودعوة إلى الله -تعالى-؛ لما ذكرنا، وللأسباب التالية:
1- أنه أول واجب على العباد:
قال الله -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) (محمد:19).
قال الشيخ حافظ حكمي -رحمه الله- في "سلم الوصول":
أول واجــب عـلــى العـبـيـد               معرفة الرحمن بالتوحـيد
إذ هو من كل الأوامر أعظم              وهو نوعان أيا من يفهم
وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ -تَعَالَى-) (متفق عليه).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في مقدمة شرحه للعقيدة "الطحاوية": "فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين "الفقه الأكبر"، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه" اهـ.
2- أول ما يحاسب عليه العبد، وأعظم ما يسأل عنه:
لأن أساس الحساب على التوحيد، ثم بعد ذلك يحاسبون على بقية الأعمال، حيث ينادي منادٍ يوم القيامة: "لتتبع كل أمة ما كانت تعبد"، فيفرق بين الناس -أولاً- على أساسه.
وأسئلة القبر الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ إنما هي أسئلة عن توحيد العبد وإيمانه، وأحاديث أول ما يحاسب عليه العبد بعد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء، فإنه بعد انقسام الناس على أساس التوحيد، فأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله: الصلاة، وأول ما يحاسب عليه من حقوق الناس: الدماء، قال الله -تعالى-: (وقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (الشعراء:92-93)، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (القصص:62)، وقال -تعالى-: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (النحل:56)، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
3- أنه حق الله على العباد:
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ)؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)، وفي رواية: (هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ) (متفق عليه).
4- أنه الغاية التي خلق الإنسان من أجلها:
قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، قال علي -رضي الله عنه-: "إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي"، وقال -تعالى-: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115) أي: أفحسبتم أنما خلقناكم بلا قصد، ولا إرادة منا، ولا حكمة.
وقال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (الإسراء:23), وقال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) (التوبة:31), وقال -تعالى-: (ومَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة:5)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
5- الغاية من بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-:
قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
6- منهج رسل الله جميعـًا:
فما من نبي، ولا رسول إلا وكان أول دعوته ولبها: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (المؤمنون:32)، وظلوا يدعون أقوامهم لذلك طيلة فترة حياتهم.
7- منهج رسولنا -صلى الله عليه وسلم-:
ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا في مكة يدعوهم إلى ذلك، ويبث الإيمان في القلوب، وفي المدينة كان كذلك، فلم يكتف بثلاثة عشر عامًا في مكة، ونزلت الفرائض مرتبطة بمعاني الإيمان والتوحيد والعقيدة، فكان النداء في الأحكام والأوامر والنواهي بـ"يا أيها الذين آمنوا"، فإيمان الإنسان وتوحيده هو الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر، والانتهاء عن المنهي عنه، وكان يعلم أصحابه البداءة به في دعوتهم وتعليمهم الناس كما في حديث معاذ السابق: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) وظل كذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى آخر رمق من حياته يعلمه ويحمي جنابه، فكان من آخر ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا (متفق عليه).
بل في أشد الظروف وأصعب المواقف لم يتنازل عن شيء منه أو يتهاون في مسألة من مسائله كما حدث في المسير إلى حنين حين طلب بعض حديثي العهد بالإسلام من مسلمة الفتح "ذات أنواط" شجرة يتبركون بها، فكان الموقف الصارم الشديد من النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فلم ينتظر انتهاء المعركة حتى يصحح هذا الخطأ، ولا خاف من تفكك الجيش والأمة، ولا حرص على توحيد الصف وتوحيد الأمة -المزعوم في هذه المواطن-؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يعلم ويعلمنا أن الأمة لا تنتصر إلا بتحقيق معاني التوحيد والعبودية، ولا تجتمع إلا على كلمة التوحيد الصافية نقية من أي شوائب؛ قال الله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55).
8- أهم أعمدة الدين:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) وفي رواية: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ) (متفق عليه).
9- أفضل الأعمال:
عن ماعز التميمي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل:  سُئِلَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشام بن العاص بن وائل نحر حصته خمسين بدنة، وأن عمرًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: (أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ؛ نَفَعَهُ ذَلِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
10- سبب النجاة من النار:
قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82)، والظلم في الآية هو: الشرك كما فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: (قَالَ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي -أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي- أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ) (رواه البخاري).
وفي حديث الرجل الذي أمر أهله إن مات أن يحرقوه ثم يذروه في يوم شديد الريح فجمعه الله -تعالى-، وقال له: (مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ) (متفق عليه)، وحديث البطاقة المشهور وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ؛ دَخَلَ النَّارِ).
11- دعوة التوحيد دعوة مجربة الثمار:
فانظر إلى آثارها في حياة رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-، وآثارها في أمتنا وفي جيل الصحابة ومن بعدهم ممن سار على نهجهم؛ تعلم كيف صنع هذا المنهج أجيالاً غرة في جبين الدهر، وتاجًا على رأس الحياة، ونماذج تشرف البشرية بانتساب هؤلاء إليها.
12- لا تقدم ولا انتصار للأمة إلا بتحقيقه:
في قوله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، اشترط الله تحقيق العبودية لتحقيق النصر، وانظر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- خير مثال، لذلك كما في حديث: "ذات أنواط" السابق، وانظر إلى فعل قادة الأمة الذين قادوها إلى النصر الموعود بعد فترات الضعف إنما أحيوا الإيمان في القلوب وطهروا البلاد من المنكرات والمحرمات، وانتشرت الطاعات وقلت المعاصي والمنكرات، وانظر -على سبيل المثال لا الحصر- ما فعله صلاح الدين الأيوبي قبل "حطين"، وما فعله قطز، وعز الدين ابن عبد السلام قبل معركة "عين جالوت".
13- وأعداء الإسلام وأعداء الأمة يعلمون أهمية التوحيد في إحياء الأمة، لذا؛ يحاولون طمس معالمه، وتشويه صورته، وتحويل الناس عنه، وعلى هذا فلا تعجب أن يحضر "السفير الأمريكي" مولد "السيد البدوي"، وقبل ذلك كانت الحملة الفرنسية تشجع ذلك، فقد قال "الجبرتي" -رحمه الله- في كتابه "عجائب الآثار" وهو مؤرخ شاهد على هذه الحقبة من الزمان؛ فقد كان معاصرًا للحملة الفرنسية حين جاءت إلى مصر، قال سنة 1213هـ في ربيع الأول:
"سأل صاري العسكر عن المولد النبوي، ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف. فلم يقبل وقال: لابد. وأعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرنسية يستعين بها، فعلقوا حبالاً وقناديل، واجتمع الفرنسيون يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم، وأحرقوا حراقة في الليل وصواريخ تصدع في الهواء ونفوطـًا".
ولعلك تعجب لما فعل الفرنسيون ذلك؛ فيجيبك الجبرتي: "ورخص الفرنساوية ذلك للناس؛ لما رأوه فيه من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات".

*****

فقد رفع السلفيون شعار: "كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة"، و"كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة"، و"التوحيد أولاً"؛ إيمانًا منهم -بالأدلة من الكتاب والسنة، والتاريخ، والواقع أن المسلمين لن تقوم لهم قائمة، ولن يحدث التمكين للمسلمين في الأرض، ولن يسودوا الدنيا إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله، وتحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى-، وقد شغـَّب على هذا المعنى بعض الناس عن حسن نية، وحسن قصد تارة، أو عن عاطفة جياشة محبة للأمة تارة، أو عن تعب من طول الطريق تارة، أو عن جهل وعدم علم بالكتاب والسنة وتاريخ الأمة تارة أخرى، فدارت بعض الشبهات في هذه القضية نجمل أهمها:
الشبهة الأولى: أن الكلام في التوحيد، وفي مثل هذه القضايا يفرق الأمة، ونحن نريد توحيد الأمة!
بادئ ذي بدء: إن الذي يفرق الأمة هو من يخالف كتاب الله -تعالى-، وسنة النبي -الله صلى الله عليه وسلم-، ومن يدعو إلى ضلالة، أو بدعة تخالف ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الله تعبدنا باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتعبدنا باتباع قول أحد غيره كائنًا من كان، قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران:31)، وقال -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور:54)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا المقام، وأشار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فعكس للأمور، وقلب للحقائق أن يقال: إن من يدعو إلى السنة، وإلى تحقيق اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يفرق الأمة، وإلا لكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مخطئًا حين حارب الخوارج -بعد أن بعث لهم ابن عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وأدحض حججهم، ورجع معه آلاف منهم-، ولكان الواجب عليه أن يحتضنهم لتجميع الأمة، وهذا لا يقوله مسلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن صحة ما فعله علي -رضي الله عنه- حين قال: (فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ)  (متفق عليه).
ثانيًا: لم يقم أهل البدع والضلالات يومًا ما بنصرة الأمة، أو الجهاد في سبيل الله، والقيام بالفتوحات، بل التاريخ يظهر أنه يوم أن تمكن العبيديين الشيعة المسمون زورًا بـ"الفاطميين" في مصر والحجاز؛ ماذا فعلوا إلا تعطيل الجهاد والفتوحات، ونشر البدع والضلالات والانحرافات، ولم تقم للأمة قائمة إلا بعد أن تخلص "صلاح الدين الأيوبي" منهم بعد محاولاتهم العديدة لقتله، وما فعله القرامطة -حتى اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه عندهم- شاهد آخر، وحين تمكن المعتزلة زمن الإمام أحمد ما فعلوه فيه، وفي أهل السنة، وهذا حال أهل البدع على الدوام، وانظر ما فعلوه في شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي البربهاري، وغيرهم من أئمة السنة.
وحين مُكِّن للشيعة في إيران لا يخفى ما فعلوه في أهل السنة ويفعلونه إلى اليوم، وما يفعلونه في العراق، "ومن نافلة القول أن نقول: إن هذا ليس حال أهل السنة معهم حينما يمكنوا" ولم توحد الأمة، ولم تقم لها قائمة، ولم تفتح البلاد، وترفع راية الإسلام إلا على يد أهل السنة والجماعة.
ثالثـًا: التجربة الأفغانية في الثمانينات شاهدة على صحة المقولة: "التوحيد أولاً" و"كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة"، وخطأ الذين يريدون توحيد الأمة على غير هذا المنهج. فرفقاء الجهاد الذين حاربوا الروس قرابة السبعة عشر عامًا بذلوا ما بذلوا حين مُكن لهم، وحاولوا التوحد مع وجود السني والشيعي والصوفي ما لبثوا إلا أن تقاتلوا، فكل واحد يريد كل شيء لنفسه ولمنهجه، وقتل من الأفغان في هذه الفتنة أكثر مما قتل في جهاد الروس كما يقول بعض المحللين، وقد توقع بعض أهل العلم هذه الفرقة بسبب وجود المناهج المختلفة قبل أن يُمكَّن الأفغان بسنوات، ولم يكن هذا رجمًا بالغيب، ولكنها القراءة الواعية للسنن والتاريخ.
رابعـًا: محاولات التقريب بين السنة والشيعة -على سبيل المثال- في العصر الحديث -ولنأخذ منذ زمن الشيخ "محمد رشيد رضا" -رحمه الله- إلى الآن، واشترك فيها من كان لهم مكانة وشهرة في الأمة في زمانهم كأمثال الشيخ "حسن البنا" -رحمه الله-، والدكتور "مصطفى السباعي"، وانتهاءً اليوم بالدكتور "يوسف القرضاوي"- ما أفلحت في توحيد السنة والشيعة، بل باءت بالفشل رغم تنازلات أهل السنة الكثيرة، والكل يعلم نتيجة ما حدث، وآخره ما كان من كلام الدكتور يوسف القرضاوي؛ لأن المنهج الذي تتوحد عليه الأمة ليس هو التوحد وكفى أيًّا ما كان الأمر حتى ولو بالتنازل عن ثوابت الأمة.
خامسًا: كيف يكون في جيش واحد، وصف واحد، ومكان واحد من يتعبد بالترضي على أبي بكر وعمر والصحابة أجمعين مع من يتعبد بلعنهم وتكفيرهم، ومن إذا اضطر؛ قال: يا بدوي، ويا دسوقي، مع من إذا اضطر؛ فزع إلى الله -تعالى-؟! كيف يتفقون ويتوحدون، وكيف يتعاملون مع بعضهم في مكان واحد وخندق واحد؟؟!!
 سادسًا: إن المنهج الذي ستتوحد عليه الأمة هو ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ، أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني), فإلى من يريد توحيد الأمة في آخر الزمان... ستتوحد الأمة على منهاج النبوة على مثل ما كان عليه أبو بكر وعمر وغيرهما من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهل بعد هذا المقال من مقال، وبعد كلام النبي من كلام؟!
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً) قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فهل بعد هذا البيان من بيان؟!، وهل بعد هذا التوضيح من توضيح؟!
الشبهة الثانية: أن الأمة اليوم موحِّدة فلا حاجة للكلام فيه!
بداية؛ من ثوابت المنهج السلفي: عدم اتهام أحد من المسلمين الذين ثبت إسلامهم بيقين بالكفر، وهذا واضح بيِّن لا يحتاج إلى مناقشة، بل الأصل في المسلم أنه على منهج أهل السنة والجماعة، وليس من أهل البدع إلا إذا ظهر منه ما يدل على خلاف ذلك، ولكن التوحيد أفرض الفروض، بل هو أهم وآكد أركان الإسلام، وتعلمه وتعليمه واجب، فهل يقول أحد: لا نعلم الناس الصلاة والزكاة، ونكتفي بمعرفتهم؟ لا يقول ذلك أحد، فكيف بما هو أهم منهما؟! فهذا قيام بأحد الفروض علينا كقيامنا بالصلاة والزكاة، والحديث عن هموم الأمة ومشاكلها، والدعوة إلى الله وغير ذلك.
ثانيًا: لا يخفى وقوع بعض المسلمين في مخالفات كثيرة، كالتوسل بغير الله، والتمسح بالأضرحة، وعدم التحاكم إلى الشرع، وغير ذلك من المنكرات التي تعج بها المجتمعات الإسلامية، ففي تعليم الناس التوحيد، وتعريفهم بدينهم بيان للجاهل والمخالف، ورده إلى الحق وحتى لا يقع غيره من المسلمين في هذه المخالفات، فإذا كان بعض الصحابة من مسلمة الفتح جهل بعض قضايا التوحيد كما في حديث "ذات أنواط"، فغيرهم من المسلمين يقع في مثل ذلك، لذا؛ قال الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب "التوحيد" في المسألة الرابعة من مسائل باب: "من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما": "أنهم -أي: الصحابة من مسلمة الفتح- إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل"، بالإضافة إلى أن هذه المسائل جزء من الدين يجب علينا تعلمها.
الشبهة الثالثة: أنتم تتكلمون في هذه القضايا، والمسلمون يذبحون، ويقتلون، ويشردون في كل مكان، بل قد يتجرأ البعض، فيقول: دعوا هذه المسائل، وفقه دورات المياه، والمسالك البولية، واهتموا بما هو أهم!
أولاً: يجب على كل مسلم احترام وتقدير كل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من واجب، أو مستحب، من صغير أو كبير في نظره -وإن كان ليس في الإسلام صغير وكبير، أو قشر ولباب، بل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- يدور بين الأهم والمهم-، ولا يتكلم بالكلام الذي يشعر بانتقاص بعض مسائل الدين؛ لأن بعض من لا علم عنده يستخدم مثل هذه الكلمات بأسوأ مما يكون، بل يتجرأ بسببها على السنة، وعلى علماء الأمة، بل وعلى الشريعة التي يدعو إلى تحكيمها.
ثانيًا: الاهتمام بالمسلمين وقضاياهم من التوحيد، ومن معنى: لا إله إلا الله، وتحقيقـًا لعقيدة الولاء والبراء.
والمنهج السلفي يقدم ما قدم الله، وينزل كل قضية منزلتها، ويحقق عبودية الوقت، ومواقف السلفيين عبر التاريخ من قضايا المسلمين سواء في فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان أو البوسنة أو غيرها من بلاد المسلمين شاهد على هذا الاهتمام، ولكن هناك من يكثر الضجيج والصراخ مع ما ماله من القوة الإعلامية حتى يظن الظان أنه الوحيد الذي يفعل كل شيء، وغيره لا يفعل شيئًا!
بل إن المنهج السلفي يتميز عن غيره بتأصيل هذه القضايا من منظور إيماني عقدي لا يزول بزوال محنة المسلمين في بلد ما، لا من منظور عاطفي إعلامي ينتهي ويزول بمجرد حذف هذه القضايا من مقررات النشرات الإخبارية.
وأيضًا بتعريف كل فرد من الأمة ما يمكنه فعله سواء كان شيخًا كبيرًا أو امرأة عجوزًا أو طفلاً، ولا يكتفي بمجرد إثارة عواطف الشباب بكلمات قوية معسولة أو خطب رنانة.
ثالثـًا: نُعرِّف لكل فرد ما يجب عليه حتى يقوم كل فرد في الأمة بما يستطيع، حتى ولو كان شيخًا كبيرًا، أو امرأة عجوزًا، ولا نكتفي بمجرد إثارة عواطف الشباب بكلمات معسولة، وخطب رنانة.
رابعـًا: أننا نؤدي هذا الفرض الذي علينا من تعلم التوحيد وغيره من قضايا الدين، ونعلمها وندعوا أنفسنا والمسلمين من حولنا إلى العمل بها والتمسك بها، ولاشك أن هذا عمل صالح، فلعلنا بهذا نكون أقرب إلى الله -تعالى-، فإذا دعوناه؛ علـَّه أن يغير حالنا.
الشبهة الرابعة: نحن في القرن الواحد والعشرين، فهل يعبد أحد الأصنام حتى نتكلم في هذه القضايا!
لا يخفى على أحد: أن الكلام عن عبادة الأصنام ليس هو التوحيد كله، فمسائل التوحيد كثيرة من الإيمان بالرسل، والكتب، والقدر، واليوم الآخر، وما يتعلق بذلك.
ثانيًا: أن في الكلام على ذلك تنبيه على غيره من كل ما يعبد من دون الله.
ثالثـًا: في القرن الواحد والعشرين، وفي أكثر البلاد حضارة -على زعمهم- أمريكا مثلاً فيها عبادة الشيطان، ولها معابدها وعبادها، وعبادة الشيطان بالمعنى الموجود عند هذه الطائفة لم يفعلها حتى أبو جهل وأبو لهب، وفي الهند -وهي دولة نووية كبيرة- يعبد فيها البقر، والفئران، وغير ذلك حتى قال بعض أهل العلم: فصار كل شيء يتحرك يعبد هناك من دون الله، وفيها ما يقرب من ثلاثة آلاف ديانة، وما الذي حدث مع صنمي بوذا في أفغانستان عن الأذهان ببعيد؟!!، فهذه قضايا يحتاجها المسلم في كل عصر ومصر.
رابعـًا: الكلام في مسائل التوحيد والإيمان هو كلام في كل ما يتعلق بشريعة الإسلام من: فقه وسيرة وأصول وآداب وتربية وغير ذلك، ولا يعرف ذلك إلا من درس التوحيد ودرَّسه، وربى الناس عليه مقتديًا بمنهج وطريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية أصحابه على التوحيد.
الشبهة الخامسة: أن هذه المسائل من مسائل الترف العقلي!
وهذه شبهة لا تستحق الكلام عليها، فكيف يقال على أصل الدين، وأفرض الفروض، وأصل دعوة جميع الرسل ترف عقلي!! هذا بهتان عظيم.
هذه في نظري أهم الشبهات والرد عليها، فإن كان فيها من صواب؛ فمن الله، وإن كان من خطأ؛ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- منه براء.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلِ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه/ محمد سرحان