الخميس، 15 نوفمبر 2012

السلفيون وتحقيق التوازن

السلفيون وتحقيق التوازن
كتبه/ محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن السلفية منهج عدل ووسط، ولذلك؛ فالسلفيون يحافظون على تحقيق التوازن في كل شيء كما هو منهج الإسلام الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهم يحققون التوازن بين العقل والقلب والبدن، فيلبون احتياجات كل واحد على حدة، دون المساس باحتياجات الآخر.
فتحقيق حاجة العقل إنما تكون بتغذيته بما يكون فيه صلاحه، حتى يُرْزَق فهمًا صحيحًا للأمور، ويكون ميزانًا صحيحًا للإنسان في تقسيم ما يمر به من أحداث، وما يعرض له من أمور، وهذا الغذاء العقلي إنما يكون بتعلم العلم الصحيح النافع الذي جاء به سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، والمنزَّل من عند رب العالمين من الكتاب والسنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) (متفق عليه).
فالعلم يحفظ الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، وهو طب العقول ودواؤها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
والعلم يقود الإنسان إلى القول الصحيح والعمل الصحيح، قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد:19)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالعلم مقدَّم على القول والعمل، فلا عمل دون علم.
وأول ما ينبغي تعلمه توحيد الله، فالعلم يبصر الله به من العمى، قال -تعالى-: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الرعد:19)، ولذلك؛ ينبغي أن يكون الإنسان -دائمًا- في استزادة من العلم، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طـه:114).
وتحقيق حاجة القلب إنما تكون بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، فإن هذا يؤدي إلى انشراح الصدر وحصول السعادة، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) (الأنعام:125)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ، أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال:2).
وكذلك من غذاء القلب: البُعد عن المعاصي، فإنها تنقص الإيمان، كما يزيد العمل الصالح من الإيمان، ومن ذلك: التوبة إلى الله -عز وجل-، وكثرة الاستعانة والدعاء، وغير ذلك من العمل الصالح.
وتحقيق حاجة البدن بالطعام والشراب والراحة والزواج، وغير ذلك من احتياجات جعل الله -عز وجل- للبدن حاجة فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) (متفق عليه).
وينبغي عليه أن يدفعَ عنه الآفات التي تضعفه وترهقه وتؤذيه، ويحفظـَه معافى قادرًا على تحصيل احتياجاته الدنيوية والأخروية من الصلاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك.
وكذلك تحقيق التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، فلا ينقطع العبد للعبادة دون السعي في الأرض، ولا يترك العبادة من أجل السعي في الأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:9-10)، وقال -تعالى-: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
وفي حديث حنظلة -رضي الله عنه- وفيه: قال: فقلت: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ؛ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: "وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!"، قَالَ أَحَدُهُمْ: "أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا"، وَقَالَ آخَرُ: "أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ، وَلاَ أُفْطِرُ"، وَقَالَ آخَرُ: "أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا"، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما أراد أن يتصدق بكل ماله:  (لاَ) قُلْتُ: فَالشَّطْرِ، قَالَ: (لاَ) قُلْتُ: فَالثُّلُثِ، قَالَ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) (متفق عليه).
وكذلك تحقيق التوازن بين الحقوق بإعطاء كل ذي حق حقه دون التقصير في حق من الحقوق، فالتوازن: إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، فقد روى البخاري عن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: آخَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: "مَا شَأْنُكِ؟!"، قَالَتْ: "أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا"، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: "كُلْ"، قَالَ: "فَإِنِّي صَائِمٌ" قَالَ: "مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ" قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ؛ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: "نَمْ"، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: "نَمْ"، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: "قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا"، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صَدَقَ سَلْمَانُ) (متفق عليه).
وعن عبد الله عن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، يَعْنِي: (إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)، فَقُلْتُ: "وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟" قَالَ: (نِصْفُ الدَّهْرِ) (رواه البخاري).
وروى البخاري في قوله -تعالى-: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (النور:37)، وقال قتادة: كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله؛ لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله.
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ؛ فَلْيَضْطَجِعْ).
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَلاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ؛ هُجِمَتْ عَيْنُكَ، وَتَفِهَتْ نَفْسُكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) (رواه البخاري).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "(فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أي: تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله من الطعام والشراب والراحة التي يقوم بها بدنه؛ ليكون أعوَنَ على عبادة ربه، ومن حقوق النفس: قطعها عما سوى الله -تعالى-، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية.
قوله: (وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أي: تنظر لهم فيما لابد لهم منه من أمور الدنيا والآخرة، وقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقوم وينام، ويصوم ويفطر، فيجمع بين الحقوق، بين حق الله وحق نفسه، وكما جاء في الروايات السابقة يجمع مع ذلك حق الضيف، وحق الزوجة".
وكذلك يراعي التوازن في الواجبات فلا يضخم واجبًا، ثم يترك أو يهمل أو يقصر في واجبات آخر، بل عليه أن يوازن بين الواجبات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟!) قَالُوا: "الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ"، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وكذا تحقيق التوازن في العمل بلا إفراط ولا تفريط، وبغير تشدد ولا تسيب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ) (رواه البخاري)، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلاَثًا. (رواه مسلم)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا؛ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا" (متفق عليه).
وقال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (لأعراف:31)، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء:29)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) (رواه البخاري)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان:67)، وقوله -تعالى-: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء:110).
وقول -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قِبَلَكُمْ بِتَشْدِيدِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَسَتَجِدُونَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ) (رواه الطبراني وأبو يعلى، وصححه الألباني). وقال -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طـه:1-2).
وإن من التوازن: ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، وتقديم واجب الوقت على غيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (متفق عليه).
فلا بد من تقديم الواجب الأهم على المهم من شعب الإيمان، وقد بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلى قَوْمِ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: عِبادَةُ اللهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذا فَعَلُوا؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكاةً مِنْ أَمْوالِهِمْ وَتَردُّ عَلى فُقَرائِهِمْ، فَإِذا أَطَاعُوا بِها؛ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرائِم أَمْوالِ النَّاسِ) (متفق عليه).
وعن البراء -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟" قَالَ: (أَسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ)؛ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَمِلَ قَلِيلاً، وَأُجِرَ كَثِيرًا) (رواه البخاري).
وهذا يدل على اهتمام الإسلام بترتيب الأولويات، فينبغي تقديم الفرض على النافلة، وفرض العين على فرض الكفاية، وفرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به البعض، والفرض الذي له وقت معين على الفرض المطلق؛ لأن أمر المسلم لا يستقيم إلا بذلك.

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

السلفيون.. والعدل والإنصاف

كتبه/ محمود عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالسلفيون شامة في أمة الإسلام هم أهل الحق لا الضلال، وأرباب العدل لا الجور، وأتباع الشرع لا الهوى، وأصحاب العلم لا الجهل، وهم وسط بين المنحرفين، وثبات بين المضطربين، وأصالة بين المتميعين.
منهجهم كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقدوتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسلافهم الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، وأعلامهم أئمة الإسلام، وحياتهم نشر للحق ودفاع عن السنة، ومعاملتهم دعوة بحكمة، وإرشاد بعلم، ومقابلة بإحسان، ومواجهة بعدل.
سمتهم: الإنصاف والعدل، والتزام الحق والصواب مع الموافق والمخالف:
عاملين بقول الله -تعالى-: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى:15)، وقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل:90)، وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8).
وقال ابن عبد الهادي: "وما تحلى طالب العلم بشيء أحسن من الإنصاف، وترك التعصب".
وقال -تعالى-: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء:58).
وكذلك من سمتهم: عدم الظلم:
عاملين بقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِى إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا) (رواه مسلم).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه مسلم).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل؛ كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل، لا بالظن وما تهوى النفس، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ، قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ في الْجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَعَلِمَ ذَاكَ، فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ، فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ، فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ) (1)، فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض إذا لم يكن عالمًا عادلاً؛ كان في النار، فكيف بمن يحكم في الملل والأديان وأصول الإيمان والمعارف الإلهية والمعالم العلية بلا علم ولا عدل؟!". "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/22".
ومن سمتهم: الإنصاف حتى مع الكفار، وعدم بخسهم حقوقهم، وذلك مع البراءة منهم ومن كفرهم:
 قال -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8).
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا؛ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري).
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر؛ ليخرص لهم الثمار، فأرادوا أن يرشوه، فقال عبد الله: (يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَىَّ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
ومن سمتهم: العدل والإنصاف مع أهل البدع والفساق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تفسيره لقوله -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، قال: "فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟، فهو أولى أن يجب عليه أن لا يحمله ذلك على أن لا يعدل مع مؤمن وإن كان ظالمًا له".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى ج3/245": "هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه...".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "بل كما تشهدون لوليكم؛ فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم؛ فاشهدوا له، ولو كان كافرًا أو مبتدعًا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق؛ لأنه حق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى ج28/209": "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا".
ومن سمتهم: أنهم يعذرون العلماء فيما أخطئوا فيه، ولا يتبعونهم فيما أخطئوا فيه، ولا يسكتون عن خطأ، لكنهم لا يجرحون في أهل العلم والفضل:
قال الذهبي -رحمه الله-: "ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". "سير أعلام النبلاء 5/269".
وقال -رحمه الله-: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له؛ قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما". "سير أعلام النبلاء" ج5.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "الفتاوى 11/15": "ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذمومًا معيبًا ممقوتًا؛ فهو مخطئ ضال مبتدع".
ومن سمتهم: قبول الحق ممن جاء به، ولو كان كافرًا مقتدين في ذلك بالكتاب والسنة:
 فإن بلقيس ملكة سبأ لما قالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) صدق الله على كلامها، فقال: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34).
وكذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن الشيطان لما كان يسرق من الصدقة فامسك به قال له: (دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ؛ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ". فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: (مَا هِيَ؟). قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيء عَلَى الْخَيْرِ. فَقَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ). قَالَ: لاَ. قَالَ: (ذَاكَ شَيْطَانٌ).
وقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا أو فاجرًا، واحذروا زلة الحكيم!. قال: كيف نعلم أن الكافر يقول الحق؟ قال: إن على الحق نورًا" (رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح موقوف).
ومن سمتهم: التحري في نقل الأخبار وقبولها، ولو كانت عن الخصوم:
 مقتدين في ذلك بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
ولقوله -تعالى-: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (النور:12).
وقوله -تعالى-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15).
وقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ) (النور:19).
وروى مسلم في "صحيحه" عن حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
وقال الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه": باب وُجُوبِ الرِّوَايَةِ عَنِ الثِّقَاتِ، وَتَرْكِ الْكَذَّابِينَ، والتحذير من الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَاعْلَمْ -وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا، وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنَ الْمُتَّهَمِينَ أَنْ لاَ يَرْوِىَ مِنْهَا إِلاَّ مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ. وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَتَّقِي مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ هَذَا هُوَ اللاَّزِمُ دُونَ مَا خَالَفَهُ: قَوْلُ اللَّهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وَقَالَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الْشُّهَدَاءِ) (البقرة:282)، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (الطلاق:2).
فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الآي أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ سَاقِطٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ مَرْدُودَةٌ، وَالْخَبَرُ وَإِنْ فَارَقَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي أَعْظَمِ مَعَانِيهِمَا؛ إِذْ كَانَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى نَفْي رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الأَخْبَارِ كَنَحْوِ دَلاَلَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ".
ومن سمتهم: تحريهم في الحكم بالكفر على المسلمين:
وذلك؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) (رواه البخاري). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ) (رواه البخاري).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام، ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يكفر بذلك، فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره".
وقال ابن دقيق العيد: "وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدًا من المسلمين، وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضًا".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين؛ لم يزل ذلك عنه بالشك".
وقد سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الخوارج من أهل النهروان: أمشركون هم؟ قال: "من الشرك فروا". قيل منافقون؟ قال: "إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً". قيل: فما هم؟ قال: "إخواننا بغوا علينا؛ فقاتلناهم"، وإذا كان هذا في تكفير المسلم العادي، فكيف بتكفير العلماء؟!
قال شيخ الإسلام: "فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات".
وقال الشوكاني -رحمه الله-: "ها هنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا لسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله وبرهان، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين؛ لقنهم إلزامات بعضهم ببعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب بالقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه المغامزة التي هي أعظم فواقر الدين".
ومن سمتهم -أيضًا-: توقير العلماء وأهل الفضل، ومعرفة قدرهم وتقديرهم:
 وذلك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وقال -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة:11)، وقال -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر:9).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والعلماء هم الذين يجب توقيرهم هم: حملة الشريعة الذين عرفوا بحسن القصد، وصالح العمل، وصحة المعتقد، واتباع منهج السلف الصالح، الذين بذلوا أعمارهم في طلب العلم ونشره، وأوتوا حظًا من الورع، الذين شهدت لهم بالإمامة والتبحر في الشريعة، وصدر الناس عن رأيهم، فهم الأئمة الكبار حقًّا، وهم المعنيون بالإجلال؛ إذا أطلق الكلام، وكل من لديه علم ممن دونهم وقر بحسب علمه وسيره على الجادة دون هضم لحق من حقوقهم.
قال الأوزاعي: "الناس هم العلماء، وما سواهم فليس بشيء".
وقال الثوري: "لو أن فقيهًا على رأس جبل؛ لكان هو الجماعة".
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "الناس صنفان: عالم ومتعلم، وسائر الناس لا خير منهم".
وقال علي -رضي الله عنه-: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم".

الأحد، 4 نوفمبر 2012

أهداف الدعوة السلفية

أهداف الدعوة السلفية
ليست الدعوة السلفية -كما أسلفنا القول- دعوة إلى شعبة من شعب الإيمان، ولا لقضية واحدة من قضايا الإسلام، وليست هي دعوة إصلاحية اجتماعية، ولا دعوة سياسية حزبية، وإنما هي دعوة الإسلام.. الإسلام بكل ما تعني هذه الكلمة من معاني العزة والسيادة والإصلاح والعدل والفلاح في الدنيا والآخرة.
والإسلام دين الله للعالمين؛ فليس هو دين وطن بعينه، ولا شعب بالذات، وإنما هو دين الأرض كلها والناس جميعاً.
ولذلك؛ فالدعوة السلفية كذلك ليست دعوة وطن بعينه، ولا شعب بعينه، وإنما هي المنهج المنضبط لفهم الإسلام والعمل به؛ كما أسلفنا هذا في تعريف هذه الدعوة.
وينبني على القضية السابقة: أن أهداف الدعوة السلفية هي أهداف دعوة الإسلام، وذلك أنها ليست حزباً دينياً بمفهوم العصر، ولا حزباً سياسياً.. إنها منهج ودعوة وطريق لفهم الإسلام والعمل به.
وها هي أهداف هذه الدعوة التي هي نفسها أهداف الدعوة الإسلامية:
أولا: إيجاد المسلم الحقيقي:
جاءت شريعة الإسلام أول ما جاءت لصناعة المسلم، إن صح هذا التعبير، وهو صحيح؛ لقوله تعالى لموسى: {ولتصنع على عيني} (طه:39).
فصناعة الرجال هي مهمة الدعوة الإسلامية.. الرجال بمفهوم الرجولة الكامل..
والإنسان بمفهوم الإنسان الكامل.. والمرأة المسلمة بالمفهوم الصحيح أيضا..
والمسلم الحق والمسلمة الحق يشترط فيهما هذه الشروط، وهي: التوحيد، والامتثال، والتزكية.
المسلم الحق هو الذي يشهد لله بالوحدانية، ويمتثل أوامره، ويبتعد عن نواهيه ما استطاع، ويزكي نفسه بهذا الدين ما استطاع.
ومناهج هذه التربية هي مناهج الدعوة السلفية التي أسلفنا فيها القول تحت عنوان: (الأصول العلمية للدعوة السلفية).
وإذا قلنا: المسلم الحق؛ فإنما نعني التفريق بين هذا الغثاء المنسوب للإسلام زوراً وبهتاناً وبين المسلم بمفهومه الصحيح الآنف.
فالذين ينسبون إلى الإسلام، وهم يمارسون الشرك قولاً واعتقاداً، ويبدلون آيات الله ويحرفونها، ويتحاكمون إلى غير شرعه، ويعادون سنة نبيه، ويستهزئون بها؛ كل أولئك لا يجوز الحكم لأحد منهم بالإسلام.
والمهمة الأولى للدعوة السلفية هي مهمة التعليم والتربية والصناعة بعد التعريف والبيان بالمفهوم الحقيقي للإسلام.
وهذه مهمة عظيمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم] (رواه البخاري).
فهداية فرد واحد للإسلام نعمة عظيمة وعمل جليل، أيا كان هذا الفرد: سيداً أو عبداً، فقيراً أو غنياً، عاجزاً أو قوياً، وحسبنا أن الله سبحانه وتعالى عاتب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انصرف عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى إلى سيد من سادات قريش؛ يدعوه، ويلح عليه؛ منصرفاً عن هذا الذي جاء يطلب الهداية.
قال تعالى: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدربك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى}
(عبس:1-4).
يعني الله عز وجل هذا الأعمى.
ثم قال: {أما من استغنى* فأنت له تصدى} (عبس:5-6).
أي: هذا القرشي الذي رأى نفسه مستغنياً عن دعوة الله، فتتصدى أنت له؟!
قال: {ما عليك ألا يزكى} (عبس:7).
أي: ما يضيرك لو لم يتزك هذا المستكبر المستغني.
ثم قال: {وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى} (عبس:8-10).
أي: لا تفعل! لا تتلهى عن هذا الذي جاءك يخاف الله ويطلب مرضاته!
ويعنينا الآن أن نفهم أن هذه المهمة الأولى والهدف الأول للدعوة الإسلامية هو مقصود الرب جل وعلا، وهو بذل الهداية؛ ليهتدي من يوفقهم الله، ويشرح صدورهم، أياً كان هؤلاء.
ثانياً: المجتمع المسلم الذي تكون كلمة الله فيه هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى:
الهدف الثاني للدعوة السلفية هو إيجاد المجتمع المسلم الذي يقوم بتآلف تلك اللبنات التي ربيت على أساس الإسلام عقيدة ومنهجاً.
وذلك أن لله أحكاماً في المعاملات، والحدود، والسياسات العامة، والحكم؛ لا يمكن تطبيقها؛ إلا بأن يدين المجتمع بدين الله، ويذعن لشريعته.
وكذلك لا يجد المسلم بالمفهوم الحقيقي لمعنى الإسلام متنفسه وراحته وأمنه وطمأنينته إلا في ظل مجتمع مسلم؛ يحكم بشرع الله، ويعظم حرماته، ويحي شعائره.
ومنذ أن غلب الكفار على أرض الإسلام فمزقوها وأحلوا كفرهم وأنظمتهم وشرائعهم محل شريعة الله ونظامه، والمسلمون في جميع أمصارهم يعانون من هذا البلاء، ويحنون في شوق ولوعة إلى العيش في ظل نظام إسلامي صحيح، تشيع فيه المحبة بين الحاكم والمحكوم، وتختفي فيه المظالم، ويأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، وتسود فيه المحبة والإيثار والإخلاص، ويرجع به للمسلمين عزهم ومجدهم الغابر، ويرتفع به الظلم والحيف والفتنة الواقعة على المسلمين في أغلب البلاد.
ولكن مناهج الدعوات للوصول إلى هذه الغاية قد تشعبت وتشتت، وكل منهج في الإصلاح والتربية يحتكر الوصول إلى الهدف وحده؛ غير مقدر للعقبات الهائلة التي وضعت في هذا السبيل.
ومن هذه العقبات على طريق المثال لا الحصر: تلك الردة الجماعية الهائلة في الشعوب الإسلامية، وذلك بعد الصياغة الرهيبة التي صيغت بها عقول أبناء المسلمين، وذلك بالثقافة والقيم المنافية للإسلام، وقد ساعد على هذه الصياغة وسائل الإعلام الضخمة التي تملكها أيدي غير إسلامية، ومناهج التعليم التي وضعت بأمر المستعمر وتخطيطه.
أقول: لم يقدر أصحاب مناهج الإصلاح والدعوات الإسلامية ضخامة العبء الواقع في طريق إقامة مجتمع إسلامي، وتصوروا قيامه بين عشية وضحاها، وبجهود مئة فرد أو مئتين، أو ألف أو ألفين، ولم يدروا أن الأمر أصبح أعظم من هذا؛ إذ يحتاج إلى جهاد وصبر طويل وسنين طويلة؛ في التربية، والتعليم، ونشر الإسلام الصحيح، والتعاون الكامل بين جميع العاملين في حقل الدعوة إلى الله؛ طبقاً للأصول العلمية السلفية السابقة.
ومما يحيرك في أمر تلك المناهج المشار إليها آنفاً أنهم عندما يتخيلون مجتمعاً إسلامياً وحكماً إسلامياً؛ فإنهم لا يجعلون الحكم العثماني مثلاً نموذجاً له، ولا يتواضعون فيرضون أن يكون على مثال الحكم العباسي، ولا يعجبهم أيضاً أن يكون على طراز أموي.. يريدون أن تكون خلافة راشدة.. وأيضا كحكم الشيخين أبي بكر عمر !!
وهذا التصور حسن في ذاته، ولكن هؤلاء المتشدقين بالحكم الإسلامي، الزاعمين الدعوة إليه؛ لا تجد في أخلاقهم وأعمالهم وسلوكهم وعلمهم ما يؤهلهم أن يكونوا أفراداً من هذا المجتمع؛ فضلاً عن أن يكونوا مسؤولين عن إقامته؛ فالأثرة، وحب النفس، والشح، والخوف، والاستبداد، والتعصب للرأي المخالف، والمجادلة بالباطل؛ كل هذه أمراض بلوناها في كثير من هؤلاء المتشدقين، وهي أمراض يسيرة إذا قيست بما هو أعظم منها مما لا يحسن ذكرها في هذه الخلاصة.
والمهم أن أولئك الحالمين بالحكم الإسلامي المتشدقين به بعيدون بعد المشرق والمغرب عن أهدافهم التي يدعونها، فضلاً عن تعجلهم وجهلهم الفاضح بمجريات الأمور من حولهم، ولذلك تتبدد طاقتهم، وتذهب جهود العاملين معهم أدراج الرياح.
ومما يجعل تلك المناهج بعيدة كل البعد عن أهدافها: عدم وضع أصول محددة لفهم الإسلام والعمل به.
وبذلك يصطدم أفراد الدعوة بالاجتهاد الفردي الذي لا يحتكم إلى أصول واحدة، أو بالواقع المرير الذي تحياه أمة الإسلام، فيقع التمزق والضياع، أو اليأس ثم الانحراف.
وقد ظهرت جماعات كثيرة، كثر أفرادها، ولكن سرعان ما تشتت وتمزقت وحدتها؛ لأن أصول فهم العقيدة والشريعة والعمل بالإسلام لم تكن واضحة محددة.
والمنهج السلفي يراعي هذا كله؛ فيؤسس بنيانه على أصول ثابتة لفهم الكتاب والسنة وتوحيد الكلمة والوصول إلى الحق، ويربي أفراده تربية سليمة وفق الأصول العلمية السابقة: التوحيد، الاتباع، التزكية، ويراعي حاضر العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، والعقبات العظيمة التي وضعت في سبيل استئناف المسلمين لحياة إسلامية كاملة في ظل حكم إسلامي كامل، فيصلح ما استطاع، ويوحد جهود العاملين للإسلام ما أمكن، والملك كله بيد الله وحده.
{قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير} (آل عمران:26).
ثالثا: إقامة الحجة لله:
كان من أهداف بعثة الرسل أن ينذروا الكافرين والمعاندين حتى لا يكون لهم عذر عند الله يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبرهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمن وءاتينا داود زبوراً* ورسلاً قد قصصنهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً* رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً} (النساء:163-165).
وأتباع الرسل يقومون بهذه المهمة بعد لحوق الرسل بربهم، وهي أن يبشروا الناس وينذروهم حتى لا يكون للمعاندين منهم حجة أمام الله يوم القيامة؛ كما قال سبحانه وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحن الله وما أنا من المشركين}. (يوسف:108).
فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم خلفاؤه في مهماته -إلا النبوة والرسالة-؛ فجهاد الكافرين، وتنفيذ أحكام الله، والدعوة إليه، والتبشير، والإنذار؛ كل هذه من مهمات الرسل وأعمالهم، وهي واجبة أيضاً في حق أتباعهم والسائرين على منهاجهم.
والمدعو إما أن يستجيب للدعوة، فيهتدي، فيتحقق بذلك الهدف الأول من أهداف الدعوة، وهو بذلك الهدف الثالث للدعوة، وهو ما نحن بصدده الآن؛ أي: تقوم عليه الحجة، وينقطع عذره عند الله تبارك وتعالى.
وفي هذا من الأمر ما فيه؛ لقوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء} (البقرة:272).
وقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى:48).
وقوله تعالى: {إنما أنت منذر} (الرعد:7).
فعلم من هذا أن الأمر موكول بالدعوى ليس إلا، وأما الهداية؛ فإنها من فعل الله سبحانه وتعالى، والله يجريها على من شاء من عباده؛ توفيقاً وإحساناً، نسأل الله أن يجعلنا ممن يجري الخير على يديه؛ إنه هو السميع العليم.
وخلاصة هذا الهدف من أهداف الدعوة هو أن الداعي إلى الله إن لم يتحقق هدفه الأول ويهتدي من يدعوه إلى الله تبارك وتعالى؛ فلا يظنن أن عمله قد ذهب سدى، بل قد أدى واجبه الحقيقي، وهو إقامة الحجة لله، وقطع عذر هذا المعاند أمام ربه يوم القيامة.
وإقامة الحجة تكون في أصل الإسلام -وهو الشهادتين- كما تكون في أركانه.
فمن أقر بالشهادتين، وادعى أنه ناج يوم القيامة؛ دون الصلاة؛ أقيمت عليه الحجة في ذلك بالآيات والأحاديث.
وكذلك الشأن في أركان الإسلام م، بل وفي الواجبات والمحرمات عامة.
فإقامة الحجة على مسلم معاند -وليس من شأن المسلم أن يعاند في ترك واجب أو فعل حرام- واجبه أيضاً؛ لأنها من الدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى.
وبهذا ينفرد المنهج السلفي ببيانه لأصول الإسلام وفروعه وآدابه ومستحباته.
وبذلك يظل العمل بالإسلام كاملاً على مدار الزمن؛ لأن إهمال السنن يؤدي إلى إهمال الواجبات، وإهمال الواجبات يؤدي إلى نقض التوحيد.. وهكذا.
والمحافظة على شريعة الإسلام كاملة في العلم والتطبيق هو أحد غايات المنهج السلفي لفهم الإسلام والعمل به.
ولذلك؛ فنحن في المنهج السلفي لا نبرم بإيضاح سنة مهملة، ولا ببيان واجب؛ لأننا نرى أن كل هذه الفرعيات تلتقي مع الأصل الأصيل، وهو إبراز الإسلام دائماً في صورته الكاملة النقية على مدار العصور، وذلك لتبقى شخصية المسلمين واضحة جلية مميزة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وأصحاب المناهج الأخرى يهتمون بقضايا بعينها من الدين، ويهملون سائره، بل ويضيقون ببيانه لهم وحثهم عليه، وما هذا إلا لجهلهم بحقيقة الدين، وذلك أن ترك نصيب وحظ وقسم مما أمر الله به يورث العداوة والبغضاء؛ كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثـقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة:14).
وهكذا عاب الله على اليهود إيمانهم ببعض آيات الكتاب وكفرهم بالبعض، وما كان كفرهم إلا تركهم العمل به.
وهكذا يحل بالمسلمين إن هم نسوا بعض ما وعظهم الله به وذكرهم وبعض ما أوجبه عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك؛ فالدعوة السلفية دعوة شمولية لأركان الإسلام ومناهجه جميعاً: {يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافةً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (البقرة:208).
فالعمل بجزء من الشريعة وترك جزء آخر من اتباع خطوات الشيطان، الذي يبرر لبعض العاملين في الحقل الإسلامي ترك الواجبات وفعل كثير من المحرمات بدواعي المصلحة المزعومة للدعوة...
والخلاصة: أن إقامة الحجة تكون بالبيان الدائم لأصول الإسلام وفروعه... هذا البيان الذي لا يترك في الحق لبساً حتى ينقطع العذر، ولا يكون لأحد العدول عن فعل الواجب وترك الحرام.
رابعاً: الإعذار إلى الله بأداء الأمانة:
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى واجب حتم في الإسلام وأمانة في عنق كل مسلم حمل علماً وأمكنه الله من نشره وإبلاغه، وذلك لأدلة كثيرة جداً؛ منها قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110).
ومعنى الآية أن المسلمين لم يكونوا خير أمة إلا بذلك.
وقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (104).
ومعنى {منكم} هنا: البدء لا التبعيض؛ أي: لتكونوا أمة داعية إلى الخير؛ كما أقول: ليكن منك رجل صالح؛ أي: لتكن أنت رجلاً صالحاً.
وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه..] الحديث (رواه مسلم).
إلى أدلة كثيرة لا تحصى كثرة.
والمسلم عندما يدعو إلى الله؛ فإنما يقوم بأداء هذه الأمانة، ويخلي مسئوليته أمام الله تبارك وتعالى؛ كما قال تعالى عن الذين وعظوا إخوانهم من بني إسرائيل، حيث اعتدوا على حرمة السبت، فصادوا السمك محتالين على شرع الله: {قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون} (الأعراف:164).
فإن الناهين عن المنكر قال لهم بعض الناس: {لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً} (الأعراف:164).
أي أنهم لن يرجعوا عن غيهم وضلالهم، فقالوا المقالة السابقة: {قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون} (الأعراف:164).
أي: نقوم بالدعوة إعذاراً إلى الله، حتى نعذر عند الله بأننا قمنا بأداء الأمانة، ثم لعل هؤلاء الذين آيستم منهم يرجعون إلى الله سبحانه، والعلم عنده وحده.
وبهذا؛ فالداعي على المنهج السلفي لا بد وأن يجعل نصب عينيه أنه سيتحقق له هدفان ولا بد:
الأول: أن يعذر إلى الله بأداء الأمانة.
الثاني: أن يقيم الحجة لله على المعاندين من خلقه.
وأما الهدفان الباقيان؛ فالأمر فيهما بيد الله سبحانه وتعالى وحده، إن شاء أن يعجل بهما؛ فعل، وإن شاء أن يؤجل ذلك؛ فعل، وهما: هداية الناس، وإقامة شرعه في الأرض.
فالأولى يقول الله فيها: {إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء} (القصص:56).
والثانية يقول الله فيها: {وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} (النور:55).
فالاستخلاف فعل الله: {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).
والعجلة في تحقيقه من الذين يجهلون سنن الله في الناس.
ولهذا؛ فإن السائر في طريق الدعوة السلفية لا ييأس أبداً، ولا يذهب عمله سدى؛ لأنه لا بد أن يحقق نصف مراده على الأقل، ويبقى دائماً مترقباً فضل الله بهداية الناس إلى طريقه وتمكين أهل الإيمان في الأرض، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم، وهذا هو النصف الآخر، وهو من فعل الله لا من فعل العبد، وما النصر إلا من عند الله؛ كما قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (محمد:7)، فلننصر الله عز وجل بأن نكون أولاً مؤمنين حقاً، وذلك باتباع المناهج السابقة في الإيمان والعمل، ثم ندعو إلى الله على بصيرة؛ باذلين النفس والمال في سبيل الله، ولنعلم أن من جاهد فإنما يجاهد لنفسه، إن الله لغني عن العالمين.
ونحن ندعو الناس في مشارق الأرض ومغاربها إلى الإيمان بهذه الدعوة بعد تمحيصها والتثبت من قضاياها والتعرف على منهجها، وسيعلمون كما علمنا أنها المنهج الوحيد لفهم الإسلام والعمل به، سيذوقون حلاوة الإيمان ولذته؛ لأن إيمانهم سيكون إيمان يقين وعلم، لا تقليداً وحمية وجهلاً، وسيكون اندفاعهم للعمل اندفاع الواثق العالم المطمئن، لا اندفاع العاطفة وفورة الحماس الموقوتة، التي سرعان ما تتبدد وتضمحل.

مميزات الدعوة السلفية

مميزات الدعوة السلفية
* أولاً: تحقيق التوحيد:
من الحقائق الأساسية لفهم الدين أن ندرك أن غاية الدين وهدفه النهائي هو توحيد الله سبحانه وتعالى؛ فالتوحيد هو خلاصة الدين، وغايته.
·   إذا جئت إلى مسائل الإيمان؛ وجدت أن أصلها (لا إله إلا الله)، ووجدت أن الإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر والرسل والقضاء والقدر، وهي الأركان الباقية؛ كل هذه الأركان الخمسة تعود إلى الركن الأول:
-         فالملائكة هم جند هذا الإله الواحد، الذين يعبدونه ويوحدونه ويطيعون أمره.
-          والرسل هم الداعون إليه.
-          والكتب هي التي تضمنت أمره ونهيه ووعظه وصفته وأعماله بأهل طاعته وأهل معصيته.
-          واليوم الآخر هو اليوم الذي حدده هذا الإله ليحاسب فيه خلقه.
-          والقضاء والقدر هو فعله وتقديره.
وكل ما يتعلق ويتصل بهذه الأركان الخمسة من مسائل العقيدة فهو راجع إلى ذلك:
فالجنة هي دار أوليائه، والنار هي الدار التي أعدها لأعدائه، وكذلك القبر والحساب والميزان... الخ كل أمور الغيب هي من خلقه وتدبيره وتصريفه ووفق مشيئته سبحانه؛ فالعقيدة كلها والإيمان كله راجع إلى شيء واحد هو الإيمان بالإله الواحد سبحانه وتعالى.
·        هذا في العقيدة، وأما الأعمال؛ فهي كذلك أيضاً تعود كلها في النهاية إلى التوحيد:
- فأشرف الأعمال على الإطلاق هي العبادات، وأشرف العبادات وأعلاها منزلة هي أركان الإسلام الأربعة بعد التوحيد، وأشرف هذه الأركان بعد التوحيد هي الصلاة...
والعبادات كلها ما سميت عبادات إلا لأنها يتقرب بها إلى الإله الواحد سبحانه وتعالى.

-  وأشرف التقرب هو الصلاة، وذلك أنه خطاب ومناجاة بين العبد والرب، وفيها تظهر العبودية ظاهرة جلية، وخاصة وقت السجود الذي يصور كمال ذل المخلوق نحو ربه وخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد].
وذلك أن العبد لما ذل لله وخضع على هذا النحو؛ تقرب الله منه وأحبه وآواه.
- وهكذا سائر الأركان؛ فالصوم تذكير بالله وتعليم لتقواه، والزكاة كذلك رأفة وإعانة للفقير ابتغاء مرضاة الله، والحج ما قصد به إلا تعظيم الخالق سبحانه وتعالى وتوحيده.
* وإذا تركت العبادات وأتيت إلى حدود الإسلام؛ وجدت أن الحدود هي شرع الله، وهي الفواصل التي وضعها للتفريق بين ما يجوز وما لا يجوز، وأنها العقوبات التي رتبها على أهل معصيته في الدنيا، ولذلك كانت الحدود توحيداً، أو هي من أجل التوحيد وعبادة الإله الواحد.
* وهكذا سائر المعاملات هي من حدوده وشرعه سبحانه، الذي ارتضاه لخلقه، والذي يأبى أن ينازعه فيه منازع؛ كما قال سبحانه: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} (يوسف:40).
* وكذلك الأخلاق لا تكون أخلاقاً صالحة إلا إذا كانت وفق شرعه، ولا يثاب عليها صاحبها إلا إذا أديت ابتغاء مرضاته.
فالإحسان إلى الوالدين والأقارب والزوجات والأولاد والجيران والأصدقاء والخلان، والعدل بين الناس، ورحمة المسكين، والعطف على الفقير، والصدق، والشجاعة، وكل هذا من الأخلاق الطيبة: لا يكون طيباً إلا إذا كان في حدود أمر الله.
فالإحسان إلى الوالدين له حدود في الشرع، ولا يكون الإحسان إحساناً إلا إذا وافق شرع الله وحدوده، ولا يثاب عليها صاحبها إلا إذا عملها ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى؛ كما قال جل وعلا: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} (النساء:114).
فبعد أن بين سبحانه وتعالى أن الصدقة والأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس من الخير؛ بين تعالى أنه لا ينال ثواب هذا الخير إلا من فعله ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وبهذا العرض السريع الكامل لعقائد الإسلام وعباداته ومعاملاته وأخلاقه؛ يتبين لنا أن الهدف والغاية من وراء ذلك كله هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن التوحيد هو أعظم قضية في الدين، وأنه يجب فهمها فهماً سليماً، وتعلمها تعلماً كاملاً، وربط جميع فروع الدين صغيرها وكبيرها بها..
وهكذا كان الرسل صلوات الله عليهم جميعاً ما بعثوا إلا بالتوحيد؛ قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36).
وقال تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلـهكم إلـه واحد} (الأنبياء:108).
وقد جعلها الله بصيغة الحصر؛ أي: لا يوحى إلي إلا هذا، فكأن دعوة الرسول ما كانت إلا من أجل التوحيد، بل ليس الموحى به إلا التوحيد..
ولذلك؛ فالدعوة السلفية المعاصرة والسالفة لا همَّ لأصحابها وحاملي لوائها -ولا يجوز أن يكون لهم همُّ- إلا إخلاص الدين لله، وتحرير قضية التوحيد، وتفهيمه على وجهه الصحيح.. التوحيد بكل معانيه.
فمعرفة الرب كما وصف نفسه ووصفه رسوله هو أصل التوحيد وبدايته؛ فلا بد من معرفة الرب معرفة صحيحة، ولا طريق لهذه المعرفة إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن آمن برب ما، ولكنه لا يعرف هذا الرب؛ فما وحد الله كما ينبغي له، بل لا بد أن يشهد لله بما شهد لنفسه سبحانه من الصفات الجليلة؛ كالرحمة، والعلم، والسمع، والبصر، والعلو عن خلقه، ومحبته للطائعين، وبغضه للعاصين الكافرين، واستوائه على عرشه الذي هو سقف مخلوقاته، وكلامه لرسله، ورؤية المؤمنين له في الجنة، وإرادته النافذة في أحبابه وأعدائه.. الخ صفاته الجليلة الكريمة التي وصف بها نفسه مادحا لها، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
ويأتي بعد هذا الأصل من أصول التوحيد أصول أخرى؛ من محبة هذا الإله، والتقرب إليه وحده، ونبذ جميع أصناف الشرك؛ من دعاء غيره، والرغبة إلى سواه، والخوف مما عداه، ونبذ الخرافات والأوهام.
ومن أصول التوحيد نسبة الفضل إلى الله وحده؛ فمنه الخير لا من سواه، وهو الذي يدفع الضر ولا يدفعه أحد غيره.
ويأتي بعد ذلك من أصول التوحيد إقامة شرعه في الأرض، والتحاكم عند الخلاف إلى ما أنزله وإلى ما حكم به رسوله لا إلى شيء غير ذلك.
ويأتي بعد ذلك من أصول التوحيد إخلاص النيات له في التقرب والطاعة ورجاء المثوبة منه والخوف من عقابه.. إلى أصول وفرعيات كثيرة للتوحيد؛ من جمعها وعلمها وعمل بمقتضاها؛ عرف الله حقاً وعبده حقاً..
والدعوة السلفية تجعل كل هذا نصب عينها، فتدعو الناس أولاً إلى هذه القضية الكلية (توحيد الله)، ثم تبدأ بعد ذلك في تفصيل فرعياتها وجزئياتها، فلا يزال الفرد الذي يسير في الطريق السلفي يرقى كل يوم درجة من درجات سلم التوحيد، ويضيف كل يوم مسألة من مسائله، فلا يمر عليه وقت يسير حتى يكون بحول الله وتوفيقه وحمده موحداً خالصاً، كل يوم في زيادة من دينه.
وبهذا تفترق الدعوة السلفية عن كل ما عداها من دعوات الإصلاح الجزئية التي تنسب إلى الإسلام، وذلك أن هذه الدعوات تبدأ من جزئية من جزئيات الدين، كأن تحاول تصحيح الحكم والسياسة، وهذه جزئية من جزئيات الدين، وترى أن الوصول إلى تحقيق هذه الجزئية لا يكون إلا بتجميع الناس وعدم تنفيرهم، حتى يساعدهم الناس في الوصول إلى الحكم، ويرون أن تجميع الناس لا يتأتى لهم إلا بالسكوت عن أخطائهم العقائدية، وبذلك يندس فيهم المشركون، والذين يدعون غير الله، ويندس فيهم أيضاً أهل الأهواء من طلاب الرياسات والزعامات؛ لأنهم يرون أن طريقهم موصل لذلك، ويسكتون عن كثير من البدع العقائدية والخرافات، حتى لا ينفروا الناس من دعوتهم في زعمهم، ويخترعون لهذا ما يسمونه بـ (مصلحة الدعوة)، فيحلون كثيراً من المحرمات، ويحرمون كثيراً من الطاعات، وقد يكون هذا في مصلحتهم كحزب يسعى إلى الحكم والرياسة، ولكنه حتماً ليس في مصلحة الدعوة الإسلامية التي يقوم أساسها على التوحيد الكامل، وليس أساسها على الحكم والرياسة؛ فتصحيح الحكم والسياسة من الدين، ولكنه ليس أصل الدين ومنطلقه، ولذلك نص الذين ينتهجون هذا النهج في الدعوة (إصلاح الحكم والسياسة أولاً) أقول: نصوا في كتبهم أن عمل البر من إحسان وزيارة وعبادات وبناء مساجد وغير ذلك إنما هو ظاهر غير مراد لدعوتهم، وأن هدف دعوتهم الأساسي هو إقامة السياسة والحكم، وشتان بين أن يكون هدف الدعوة هو التوحيد وأن يكون هدف الدعوة هو الرياسة والزعامة وإن لبس هذا بلباس الإسلام.
والدعوة السلفية تسعى فيما تسعى إليه إلى إصلاح السياسة والحكم، ولكنها تعتقد أنه جزئية ينزل منزلته من أوامر الذين من حيث الأهمية والأولوية، ويسعى إليه بالقدر السليم الصحيح الذي يتناسب مع القائمين بالدعوة وجهودهم، وهي تدعو الله لكل سلطان صالح يريد الخير للناس، وتدعو جميع السلاطين القائمين إلى تحكيم شرع الله في أنفسهم وما خولهم الله إياه.
وأما أولئك الآخرين؛ فإنهم يشرقون ويغصون لو أن حاكماً دعا إلى شيء من الإسلام، وطبق شيئاً من أحكامه، وذلك أنهم يريدون أن يبقى التناقض قائماً بين الحاكم والإسلام؛ لتستمر دعوتهم، ويكون مبرر لوجودهم، وذلك أنهم يرون أن توجه الحكام إلى الإسلام نهاية لوجودهم، وسرقة لدعوتهم، وقد يشعرون بهذا، ويحاربون هذا عن علم، وقد لا يشعر بهذا كثير منهم.
ولذلك حملهم هذا أيضاً على العصبية في الدعوة، وحب الظهور، والرغبة في ألا يأتي الخير للناس إلا من طريقهم، ولذلك عادوا إخوانهم في الدعوة، وذلك كما تعادي الأحزاب السياسية بعضها بعضاً، يسوؤهم أن يصل آخرون إليه، ولو كانوا مسلمين مثلهم وخيراً منهم، أو أن يصلح القائمون في الحكم أنفسهم..
وكذلك الشأن في كل دعوة اتخذت جزئية من جزئيات الإسلام مراداً ومنطلقاً وغاية لها؛ كالدعوات إلى الإصلاح الاجتماعي؛ من محاربة شرب الخمر، والاختلاط، وأندية الفسق والفجور.. ونحو ذلك.
وكذلك دعوات البر والإحسان والعطف على الفقراء واليتامى، هذه الجمعيات والدعوات التي تتوقف عند جزئية من جزئيات الدين يضل سعيها، ولا تصل إلا إلى أقل القليل من النتائج، وقد يبقى أفرادها في دوائر ضيقة من العلم والعمل، ثم يتفرقون ويتمزقون، بل قد يجتمع معهم أهل النيات الفاسدة ومحبي الظهور والمدح.
وهذه الأمور من جزئيات الإسلام، وإن كانت مطلوبة مرادة؛ إلا أنها يجب أن تبقى في الإطار العام من دعوة الإسلام الشاملة العامة، وأن تكون أجزاء في هيكل التوحيد وإخلاص الدين لله سبحانه وتعالى.
ولذلك كان المنطلق السلفي في إخلاص الدين لله أولاً، وتحقيق التوحيد، ثم إنزال جميع تكاليف الإسلام منازلها بعد ذلك؛ من إصلاح الحكم والسياسة والقضاء، وإقامة الحدود، وتطهير المجتمعات من الفساد، وتربية الرجال والنساء على الدين الحق من عبادات ومعاملات وأخلاق.
أقول: هذا المنطلق السلفي هو المنطلق الصحيح السليم، وهي دعوة الرسل، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا إلى التوحيد أولاً وأخيراً، ثم أنزل الأعمال منازلها حيث مناسباتها، فنزل تحريم الأطعمة بمكة، حيث يستطيع المسلمون تنفيذ ذلك.. وكذلك نزلت الصلاة والأخلاق والدعوة والصبر على الأذى وبعض المعاملات في المجتمع المكي، ثم تدرج التشريع من قتال وزكاة وحج وغير ذلك في مجتمع المدينة..
ونحن نرى أن الدين قد كمل بعد حياة الرسول، ولا يجوز تعطيل فرضية من فرضياته، ولكن يقوم أهل الدعوة والجهاد من أوامر الدين بما يستطيعون وما يطبقون تحقيقاً لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن:16).
ويجب أن يكون ذلك على نهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووفق سنته، فيحقق التوحيد في أفراد الدعوة أولاً، ثم يدعون إلى العمل الصالح حسب القدرة والاستطاعة والأولوية والمناسبة، ووفق سياسة تحقق للمسلمين أن يقوموا بالدين كله في جميع شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية، وكل هذا في إطار التوحيد الذي هو غاية العمل الإسلامي ومراده.
وهذه الميزة للدعوة السلفية هي من أعظم مميزاتها.
وباختصار؛ إذا أردنا أن نعرف الدعوة السلفية؛ قلنا: إنها دعوة التوحيد، والتوحيد يعني هذا الفهم الشامل للدين الذي شرحناه آنفاً... رأفة وإعانة للفقير ابتغاء مرضاة الله، والحج ما قصد به إلا تعظيم الخالق سبحانه وتعالى وتوحيده.
* ثانيا: تحقيق الوحدة:
الدعوة الإسلامية دعوة عامة للناس جميعاً.
قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).
وقال تعالى: {وما أرسلنك إلا كافةً للناس} (سبأ:28).
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان ما امتاز به عن غيره من الرسل: [وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة].
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
ولما كان الناس مختلفين في شأن هذه الرسالة العظيمة، ويكون منهم المؤمن ومنهم الكافر؛ كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن:2).
فإن الله سبحانه وتعالى أوصى عباده الذين آمنوا بأن يكونوا إخوة؛ قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات:10).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس].
ويعني هذا انتفاء الإيمان عند انتفاء الأخوة.
ولذلك كان من علامات النفاق الفجر في الخصومة، وهو المبالغة فيها.
وقد جاءت الأوامر القرآنية الكثيرة والأحاديث الصحيحة الكثيرة بالحرص على هذه الأخوة وتشييد بنائها والنهي والوعيد الشديد على الفرقة والتفرق؛ كما قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءايته لعلكم تهتدون} (آل عمران:103).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تدعى له سائر الجسد بالحمى والسهر].
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض].
وقال صلى الله عليه وسلم: [سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر].
وحث الله ورسوله على كل ما يقرب المسلم من أخيه المسلم، وأجزل الله العطاء لذلك؛ فقد جاء في الحديث: أن رجلاً غفر الله له عندما خرج ليزور أخاً له في الله في قرية غير قريته، وأن الله عجب من رجل وامرأة أطعما ضيفهما وباتا جياعاً مع أولادهما.
والحق أن الإسلام لم ينشر إلا بهذه الأخوة العجيبة، التي ربطت بين الصحابة رضوان الله عليهم في صدر الإسلام، فلولا إيواء الأنصار لإخوانهم المهاجرين، وحب المهاجرين وعفتهم مع إخوانهم الأنصار؛ لما كانت هذه الفتوح العظيمة وهذا الانتشار السريع للإسلام شرقاً وغرباً.
ولذلك كان من أعظم البلاء على أمة الإسلام ما وقع بينهم من فرقة وخلاف وشقاق جعل السيف بينهم بعد أن كان على أعدائهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة: [خذ هذا السيف؛ فقاتل به، حتى إذا وجدت أمتي قد اختلفت وضرب بعضها بعضاً؛ فحطمه على صخرة من صخور سلع].
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهكذا فعل محمد بن مسلمة.
ولذلك قال تعالى: {ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الأنفال:46).
أي أن الفشل وغياب النصر سببه الفرقة، وهذا هو شأن المسلمين في العصر الحاضر: أمة عظيمة العدد، واسعة الإمكانيات، غنية التراث، ولكنها مع ذلك أمة ضعيفة مشتتة مهزومة، وما ضعفها إلى بفرقتها وتنازعها.
وقد دخل التنازع والفرقة على المسلمين من أبواب كثيرة، وأهم هذه الأبواب ما يلي:
أولا: الاختلاف في العقائد ومسائل الإيمان:
وقد بدأ هذا الاختلاف يسيراً في مسائل قليلة؛ كالحكم على مرتكب الكبيرة الذي مات ولم يتب منها؛ أكافر هو أم مسلم؟ وهل يجب قتاله أم لا؟ وفي سبيل ذلك نشأت بدعة الخوارج ثم المعتزلة.
ثم بدأ الخلاف حول صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه.
ثم توسع الخلاف العقائدي ليشمل مسائل كثيرة، ويمزق المسلمين إلى نحل وعقائد شتى.
ونظرة سريعة إلى كتاب من كتب الفرق؛ كـ "الملل والنحل" للشهرستاني، و "الفرق بين الفرق" لعبدالقادر الجرجاني، أو "اختلاف المسلمين وعقائد المصلين" لأبي الحسن الأشعري؛ يريك كم من الفرق العقائدية ظهر قبل تمام القرن الثالث الهجري.
واختلاف العقائد بالطبع يؤدي إلى اختلاف القلوب والأعمال.
والدعاة السلفيون منذ الصدر الأول دعوا الناس إلى التمسك في أمور العقائد بالكتاب والسنة، وترك التأويل الباطل والهوى والتعصب، وكان لدعوتهم من البركة أن بقي جمهور المسلمين وعامتهم على سنن الحق متمسكين في عقائدهم بالكتاب والسنة.
والدعاة السلفيون في هذا العصر، السائرون على منهج السلف الأول في دعوتهم وجهادهم، يدعون الأمة كذلك إلى أخذ عقائدها من الكتاب والسنة فقط، ونبذ جميع البدع العقائدية، والاجتهادات والتصورات الغيبية، التي جاء بها المشعوذون والدجالون والمتكلمون على الله بلا علم، وذلك لجمع شمل الأمة على كلمة سواء، فيكون إيمانهم واحداً، وبذلك تكون قلوبهم واحدة.
ثانيا: الاختلافات العملية:
وهذه الاختلافات في أمور العمل من عبادة ومعاملة ونحو ذلك، وإن كان ضرره أخف من أضرار الاختلاف في العقائد؛ إلا أنه يجر أحياناً إلى الشقاق والخلاف.
ولذلك كره رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاف مطلقاً، حتى في هذه الأمور العلمية الفقهية.
وهدد عمر بالضرب على خلاف يسير، وقال في مسألة الغسل؛ هل يجب من الإنزال أم من مجرد التقاء الختانين: اسألوا عائشة، فلما ذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إذا التقى الختانان؛ فقد وجب الغسل]. قال عمر: لو سمعت أن أحكم أفتى بغير ذلك؛ لجعلته نكالاً!!
ولما كان الاجتماع على رأي واحد في كل المسائل الفرعية العملية متعذراً؛ فإن الله سبحانه وتعالى أمر برد الاختلاف إلى كتابه وسنة رسوله، وقد أمر أيضاً بأن يعذر بعضنا فيما لم نستطع التوصل فيه إلى رأي واحد.
وكان هذا هو منهج الصدر الأول من سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم؛ يختلفون أحياناً، ولكن يعذر بعضهم بعضاً، ولا يتعصبون لأقوالهم، ويردون ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله.
وكان هذا أيضاً شأن أئمة الإسلام الأعلام وفقهاء الإسلام في جميع الأقطار -ومن هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم-: يفتون ولا يتعصبون، ويدعون تلاميذهم إلى نبذ التعصب لأقوالهم إذا خالفت الدليل، ولذلك استمرت وحدة الأمة التشريعية الفقهية زماناً طويلاً.
ولكن نشأ في المسلمين من حرم الاجتهاد والرجوع إلى الكتاب والسنة، وحرم استخدام الدليل؛ زاعماً أن فهم الدليل والحجة قد ولى، وحرم على الناس العمل إلا بأقوال الأئمة الأربعة، وانتشرت هذه البدعة المقيتة في زمان ضعف الأمة، بزوال ملك العباسيين، وغلبة ملوك من العجم والمماليك الذين لا يحسنون العربية ولا يفقهون في الدين، فنشأ التقليد والتعصب، والتف المقلدون المتأكلون بالدين حول أولئك السلاطين الجهلة، وأغروهم بحرب أهل السنة ودعاة السلفية الداعين إلى الاجتهاد ونبذ التقليد والتعصب، فأصاب أهل الدعوة السلفية من هؤلاء شر مستطير، وذلك لأن هؤلاء المقلدين الملتفين حول سلاطين السوء أغروا عامة الناس بأن من يطلب الدليل والحجة ويأمر بالاجتهاد؛ فإنه يرفض علم الأئمة الأربعة، ويمقتهم، ويزدريهم، ولما كان عامة الناس يحبون الأئمة ويحترمونهم ولا يستطيعون أن يميزوا بين دعوة التقليد وبين الدعوة إلى الاجتهاد والأخذ بالدليل؛ فإن هؤلاء العامة ركبهم أولئك السفهاء، ووجدت الدعوة السلفية العظيمة من هذا البلاء: بلاء السلاطين الأعاجم الجهلاء، وبلاء علماء السوء المتأكلين بالدين الموالين الطواغيت، وبلاء العامة الذين لا يميزون ولا يعرفون معنى التقليد ومعنى الاجتهاد.
وظل الأمر هكذا حتى تهدمت الخلافة العثمانية، وغلب الفرنجة من أهل أوروبا على أرض الإسلام، ووجد المسلمون أنفسهم في مؤخرة الأمم، فصرخوا يريدون العودة إلى الكتاب والسنة.
وبالرغم من هذه الصحوة وهذا التنادي من كل مكان بوجوب تنظيم معاملاتنا وفق الكتاب والسنة؛ فإن هناك من لا يزال يعيش بعقلية التقليد والجمود، ويأبى إلا أن يظل المسلمون في فوضى تشريعية، ويزعم أن كل قول في الدين جوز الأخذ به، ومن يزعم أن الاجتهاد باطل، وأن الدين محصور فيما دونه الأئمة الأربعة فقط، ومن يتهم الدعاة السلفيين بمعاداة الأئمة، بل ومن يوجب على المسلمين أن يتبع كل منهم إماماً من الأئمة الأربعة، وأن من أخذ بالدليل ورجع إلى الكتاب والسنة؛ فهو مبطل مبتدع.
أقول: ما زال في المسلمين من يعتقد هذا ويدعو الناس إلى ذلك.
ومعلوم يقيناً أن لكل إمام الرأي والرأيان المختلفان في المسألة الواحدة؛ كما نقول: قال الشافعي في القديم وقال في الجديد، بل والثلاثة والأربعة، وأن كثيراً من المسائل الفقهية العملية فيها اختلاف واضح، ومعلوم أن القوانين العملية يجب أن تكون واحدة، وإذا كان هناك اختلاف بين الفقهاء في هذه المسائل؛ فكيف تضمن الوحدة التشريعية؟!
إن قلنا: نختار قول إمام واحد؛ كان هذا من التعصب، وليس هذا الإمام الواحد معصوماً حتى نأخذ جميع أقواله في جميع معاملاتنا.
وإن قلنا بجميع الأقوال؛ كان هذا تناقضاً واختلافاً؛ فكيف يحكم القاضي فيمن تزوجت دون إذن وليها ؟! فبعض المذاهب يجيز ذلك، ويرى العقد مع هذا صحيحا، وآخرون يرون العقد مع عدم إذن الولي باطلاً يجب فسخ الزواج؛ سواء قبل الدخول أو بعده؛ فما العمل ؟!
وإن قلنا: نرجح بين الأقوال؛ فكيف نرجح؟!
إن كان بالهوى والتحكم؛ فليس الهوى من الدين.
وإن كان الترجيح بالدليل والحجة؛ فهذه هي السلفية، وهو الحق: الترجيح بين أقوال الأئمة المتعارضة، وأخذ أقربها إلى الحق في نظرنا، والبحث عن الدليل دائماً، وهذا هو الميزان الضابط لوحدة الأمة في أمورها التشريعية.
وهذا جانب من جوانب الدعوة السلفية: الدعوة إلى وحدة الأمة التشريعية في أمورها العملية، وذلك بحب الأئمة الأربعة جميعاً، والنظر إليهم نظرة سواء، وأخذ الأقوال المؤيدة بالدليل، والتي نرى أنها الحق، وعدم التعصب لواحد منهم دون الآخر، مع الاعتراف بفضلهم وعلمهم وجهادهم، والتتلمذ على كتبهم، ودراسة مناهجهم في الفقه، وأخذ أقوالهم، والعمل بها؛ ما لم تخالف الدليل من كتاب أو سنة، وبهذا أمرونا هم ودعونا إلى ذلك.
وهذا هو المخرج الحقيقي من تمزق الأمة التشريعي وفرقتها العملية، ومعنى ذلك أنه لا بد وأن ينشأ في الأمة العلماء المجتهدون العالمون، الذين يستوعبون مرحلتهم الراهنة، ويفقهون أوضاع المسلمين الحاضرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والخلقية، ويشرعوا للمسلمين في هذه الأحوال جميعاً وفق الكتاب والسنة؛ مسترشدين بعلم الأئمة الأعلام والفقهاء الكرام؛ غير متعصبين لأحد منهم دون الآخر، وإنما يكون ولاؤهم للحق، وتمسكهم بالدليل؛ فهم مع الحق لا مع الرجال، يعرفون الحق بدليله، ولا يعرفون الحق بقائله.
وهذا أبرز جوانب الدعوة السلفية، وأكثرها وضوحاً ولمعاناً.
إنهم طلاب حق، يطلبونه بالدليل، ومع تقديرهم واحترامهم لأهل الفضل والعلم؛ فإنهم مع ذلك لا يقبلون أقوالهم إذا تحقق لديهم أنها تخالف الدليل.
ولما كان الحق واحداً لا يتعدد، وكان السلفيون طلاب حق لا عباد رجال؛ لذلك حافظوا على وحدة الأمة؛ فالرجال المتبعون كثيرون، ولو كان كل رجل سيتبعه من الأمة جماعة؛ لتعددت الجماعات، وإذا كان الرجال يختلفون؛ فمعنى هذا أن الجماعات ستختلف، وبذلك تتمزق الأمة وتتشتت، أما إذا كان الارتباط بالحق وللحق، وكان الرجال يقاسون بالحق ولا يتعصب لأقوالهم؛ كان هناك جماعة واحدة هي جماعة الحق، وكان هناك رجال يحترمون ويقدسون وتؤخذ أقوالهم بقدر اتباعهم وتقديسهم وأخذهم بالحق.
ولذلك؛ فإننا نقول: الدعوة السلفية دعوة وحدة للأمة في نظام تشريعي عملي واحد، مستند إلى الكتاب والسنة، يأخذ بأقوال الأئمة، ولا يتعصب لرأي منهم.
فهل على هذه الدعوة يا قوم من غبار؟!
* ثالثاً: تيسير فهم الإسلام:
أنزل الله سبحانه وتعالى الدين الإسلامي للناس كافة، وبعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للعالمين، وبما أن الناس متفاوتون في الذكاء وسرعة الإدراك والفهم، فإن الله جعل هذا الدين سهلاً ميسراً، ليس في العمل فقط، بل في الفهم والإدراك.
فحقائق الدين الأساسية سهلة ميسرة، سواء كانت حقائق عقائدية إيمانية، أو حقائق علمية تشريعية.
فتوحيد الله سبحانه وتعالى من الممكن أن يعلم بكلمات قليلة وبمجالسات يسيرة لأهل العلم الحقيقي المستند إلى الكتاب والسنة.
وكذلك فرائض الإسلام الخمس يستطيع الفرد الذي أوتي نصيباً قليلاً من الفهم أن يلم بأحكامها في وقت يسير: فالوضوء والصلاة يمكن تعلم أصولها في وقت لا يتعدى الساعة أو الساعتين، وكذلك الصوم، وصاحب المال يستطيع معرفة زكاة ماله في وقت يسير إذا بين له ذلك رجل من أهل العلم، وكذلك الحج أيضاً.
والخلاصة: أن الإسلام دين ميسر في الفهم والعلم، وكذلك هو دين ميسر في التطبيق والعمل، فلا مشقة فيه بوجه من الوجوه.
ومصداق هذا قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر:22).
وهذه الآية دليل واضح على أن القرآن -وهو أساس الإسلام الذي حوى جميع علومه- ميسر للذكر، والذكر يتضمن العلم والعمل.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: [إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدُ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا].
وهذا دليل على يسر الإسلام في العمل والفهم أيضاً.
ولكن؛ هذا الدين الميسر قد جاء من الناس من عقَّده، وضيق طرق الوصول إليه، وحجب الناس عن الاستفادة من الكتاب ومن السنة، وجعل الإسلام أشبه بالأحاجي والألغاز، وذلك بإكثار المصطلحات الخاصة في كل فرع من فروع العلوم الإسلامية، ونشأت علوم ومعارف ليست من الإسلام في شيء، وقد أسميناها علوماً ومعارف تجاوزاً، وحدث التغالي بعد ذلك في علوم الآلات الموصلة إلى فهم القرآن والسنة، فنشأ التغالي في علوم النحو والصرف وأصول الفقه، إلى الحد الذي أعجز المتخصصين فيه عن أن يصلوا إلى غاية ذلك من فهم القرآن والحديث، بل من فهم الفروع الإسلامية الأخرى، حتى إننا نجد العالم المتخصص في علوم العربية لا يفقه من الكتاب والسنة إلا قليلاً، وقد يكون عالماً بأصول الفقه لا يحسن التوحيد، بل لا يحسن الوضوء ولا استنباط حكم صحيح من كتاب الله وسنة نبيه، بل الأدهى والأمر من ذلك أن تخرج الجامعات الإسلامية علماء يعتلون المنابر ويخطبون في الناس وهم لا يميزون بين حديث صحيح ثابت عن الرسول وبين الأقوال الموضوعة المرذولة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً.
وهكذا ساهم تعقيد الدراسة الإسلامية في نشأة أشباه العلماء، الذين يعرفون فرعاً من فروع الدين ولا يملكون رؤية شمولية له.
وكذلك ساهم هؤلاء في نشأة كهانة دينية، جعلت الدين الذي أنزله الله للعالمين محجوباً عن الناس بعلماء ادعوا أنهم الأوصياء عليه، وإذا جئت تناقش حجتهم في قول ما لتفهم وتعي عن الله وتتدبر قوله؛ قالوا لك: لا تناقشنا! خذ قولنا ولا تسألنا عن الدليل! وذلك ليغمضوا عينيك، وليحولوا الناس إلى سائمة يسيرون وراءهم وهم لا يدرون.
والدعوة السلفية تجعل همها الأول تذليل فهم الإسلام للناس؛ فهي تفتح الطريق أمام الناس جميعاً لدراسة الكتاب والسنة دراسة علمية سهلة واضحة، وبذلك يكون العلم مشاعاً للجميع، ويرتبط الناس بالقرآن فيتدبرونه، وبالسنة فيفقهونها، ويصبح فهم الدين والعمل به ليس حكراً على طائفة معينة تلبس لباساً خاصاً وتتكلم بلهجة خاصة، وإنما يصبح الإسلام للناس جميعاً علماً مشاعاً كالهواء الذي نتنفسه.
وقد وجدنا أثر ذلك بحمد الله في إخواننا؛ فما أن درسوا الإسلام بالمنهج السلفي؛ حتى كانوا علماء فيه في مدة يسيرة جداً، هذا مع امتلاك الرؤية الواضحة لمجمل هذا الدين؛ عقيدة، وشريعة، وسلوكياً، ومع الاستزادة اليومية من علومه؛ استزادة لا تشغل الطبيب عن طبه، ولا المهندس عن هندسته، ولا التاجر عن تجارته، وذلك لأن المنهج السلفي في فهم الإسلام يعطي الدارس مفاتيح فهم الدين؛ فالطالب في المنهج السلفي يعرف أصول الإسلام، ومراجع معرفة العقائد والأحكام، ويعرف كيف يكون ذا فكر مستقل غير مقلد، وكيف يحترم العلماء ولا يتعصب لأقوالهم، وكيف يأخذ الحق أنى وجده ما دام مؤيداً بالدليل، وكيف يترك الباطل مهما كان مصدره إذا وجد دليل بطلانه، وبذلك يفهم الإسلام في سهولة ويسر.
وإذا كان هذا التيسير مطلوباً في الأزمان الماضية؛ فهو أشد ضرورة ونحن أكثر حاجة إليه في أزماننا هذه، التي يستغرق فيها التعليم الدنيوي كل عمر الإنسان، وتستهلك فيها الحضارة الحديثة كل وقته، ويركض الناس فيه خلف الحياة بكل طاقاتهم وجهدهم.
ولذلك كان المنهج السلفي لتعليم الإسلام وتعلمه هو المنهج الأكمل الأسلم؛ لأنه يأخذ من الفرد أقل الأوقات، ويعطيه أعظم الفوائد، فلا يفني الفرد عمره في معرفة حواش وجزئيات وفرعيات وخزعبلات لا تغني عنه في دينه ولا دنياه شيئاً، وإنما ينصرف إلى حقائق الدين رأساً، فيتعلم أصول التوحيد ليصحح إيمانه وعقيدته، وأصول العبادات ليصح عمله ويكون صالحاً، وأصول التزكية والأخلاق لتزكو نفسه وتطهر، وكل ذلك من الكتاب والسنة، حيث يتعامل السلفي مع كلام الله الذي سماه روحاً ونوراً، ومع كلام الرسول الذي هو الحكمة والهداية.
وهذه هي الفائدة الثالثة والميزة الأولى للسير في الطريق السلفي، طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي علم أمة كاملة بأيسر الجهود وأقل التكاليف.
وهكذا كان صحابته كما قال ابن مسعود: "أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً".
وهكذا نريد الجيل السلفي الحديث، على نحو الرعيل الأول: أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً.