|
من
المعلوم أن العقيدة هي المحرك الأول للصراع بين الأمم والحضارات، وبها
تحافظ المجتمعات على هويتها وثقافتها واستقلالها، وتتميز عقيدة الإسلام عن
تلك العقائد بكونها هي الحق الذي يتواءم مع الفطر السليمة، والعقول
المستقيمة؛ لأنها ربانية المصدر، سهلة المأخذ، لا يشوبها غلو ولا جفاء،
لذلك لا جرم إن كانت منجية في الدنيا من الاضطراب، وفي الآخرة من العذاب.
وهذه العقيدة الصافية الصحيحة هي ما كان عليه الصحابة الأخيار، وسلف الأمة
الأبرار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
|
|
|
|
|
أولها: أنها عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وليست عقيدة من
خالفهم من أهل البدع من بين مشرق ومغرب، فهي عقيدة تمتد جذورها مع تاريخ
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وينتهي تاريخ الأنبياء بمبعث الخاتم محمد
صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالعقيدة والشريعة كاملة، وليبقى أتباعه إلى
يوم القيامة على ذلك المنهاج القويم.
|
|
|
|
|
ثانياً: أنها عقيدة قائمة على إخلاص العبادة لله الواحد القهار، تقوم
على أساس توحيد العبادة، فأساسها: هو لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله
ليست كلمة يقولها الإنسان بلسانه وفقط، وإنما هي كلمة لما وزنت بالسماوات
والأرض ثقلت عليها كما ورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي
عقيدة تمحض العبادة لله الواحد القهار، وهي عقيدة ترفض العبودية لغير الله
سبحانه وتعالى، وترفض أن يُصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى،
ومن هنا قامت هذه العقيدة على أسس ثلاثة: على الخوف من الله، والرجاء في
الله، والحب في الله، وإذا اجتمعت هذه الأمور في قلب العبد المؤمن صار لربه
عابداً مخلصاً، أما إذا صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله سبحانه
وتعالى اضطربت أحواله وانتكس، وهذه حقيقة لا شك فيها أيها الإخوة المؤمنون!
|
|
|
|
|
ثالثاً: أنها عقيدة تقوم على توحيد العبادة، وهي قائمة على توحيد
المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن محمداً رسول الله،
ومقتضاها أن هذا النبي الكريم هو رسول الله حقاً، ومن ثم فإن ما جاء به من
القرآن أو من الحديث، أو من سنته العملية أو من سيرته الصحيحة: فهو شرع يجب
أن يقتدي به المسلمون، ومن ثم كانت شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي
أموراً كثيرة عظيمة لو تحققت في حياتنا -نحن المسلمين- لغرست في نفوسنا
العقيدة السلمية؛ ولتحولت حياتنا إلى حياة أخرى غير ما نشاهده الآن، حيث
نشاهد -نحن المسلمين- الأحداث من حولنا فيها الذل والتبعية، نعيش حياة
الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، حتى أصبحنا كما أخبر عنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وفعلاً عددهم أكثر من ألف مليون مسلم، ولكنهم أمام أعدائهم غثاء كغثاء السيل!
|
|
|
|
|
رابعاً: أنها عقيدة لا يقولها الإنسان بلسانه فقط، وإنما هي عقيدة
تنتقل إلى واقع عملي في حياته، ومن ثم فهي عقيدة تنبثق منها، شريعة شاملة
ونظام حياة.
ومن هنا كان هذا الانبثاق من هذه العقيدة عقيدة، لا كما يقول البعض: إن
الشريعة تنقسم إلى عقيدة وإلى أحكام وفروع، بل نقول: إن كل ما جاء به رسول
الله صلى الله عليه وسلم عقيدة تنبثق منها شريعة كاملة تنظم شئون الحياة من
أولها إلى آخرها، فهي ليست عقيدة مختصة بالقلوب فقط، وليست عقيدة مستقرة
بين الصدور فقط، وإنما هي عقيدة تتحول وتنطلق إلى عمل وإلى خلق وإلى عبادة
وإلى ولاء وبراء وإلى جهاد في سبيل الله وإلى أعمال يسير فيها السائر
والمهاجر إلى ربه سبحانه وتعالى، يسير فيها حياته كلها قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]،
إي والله! فهي حياة تتحول عند المسلم إلى حياة طاعة وعبادة لله الواحد
القهار.
هذه العقيدة ليست كلاماً يقال ويدندن به فقط، وإنما هي أعمال تتحدث عن
نفسها لتدل في النهاية على أن هذا الرجل صاحب عقيدة، وعلى أن هذا المجتمع
مؤسس على عقيدة، وعلى أن هذه الأمة ربيت على عقيدة، لكن حينما تختلط
الأوراق، ويشرئب النفاق، يجلجل البعض بصوته مدعياً، ولكن دعواه -حينما ينظر
فيها من خلال الأعمال- يتبين أنها عكس ما يقول.
|
|
|
|
|
......
|
|
|
الأمر الثالث: أن هذه العقيدة تغرس في النفس التوكل على الله
والاعتصام به، وهذا يريح الإنسان كثيراً في حياته، فكم من إنسان خاف من غير
الله فأصبح شريداً طريداً، خاف من غير الله فتحولت حياته إلى جحيم، يخاف
مرة من الجن، يخاف مرة من العين، يخاف مرة من قطع الأرزاق، يخاف مرة مما لا
يملك العباد منه شيئاً!! أما إذا توكل على الله واعتصم بالله سبحانه
وتعالى فإنه يعيش سعيداً؛ لأنه يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه
لم يكن ليصيبه، وعليك أن توقن أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
يكتبه الله لك لم ينفعوك، كما أنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه
الله عليك لم يضروك أبداً، تلك والله عقيدة إذا غرست في النفوس تحول العبد
إلى عبد لله حقاً.
|
|
|
|
|
الأمر الرابع: أن هذه العقيدة تورث الشجاعة في الحق والثبات عليه، وإن
ضعف مواقفنا وضعف إيماننا وكثيراً من هزائمنا -النفسية وغير النفسية- إنما
سببه أننا لم نؤمن بالله حق الإيمان، ولم تغرس في نفوسنا هذه العقيدة ذلك
الغرس الصحيح، فلما أصبحت حياتنا على هذه الحال تحولنا إلى ضعفاء، تحولنا
إلى جبناء حتى أمام أخس أعدائنا!
وسنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا اعتصم الإنسان بالله سبحانه وتعالى قواه
الله سبحانه وتعالى، أما إذا اعتصم بغيره وكله الله سبحانه وتعالى إلى ذلك
الغير؛ فتحول إلى عبد ذليل لذلك الغير، وهذا أمر مشاهد.
|
|
|
|
|
هذه العقيدة ترجع أهميتها إلى عدة أمور:
فهي عقيدة لها أثر عظيم جداً على حياة الفرد، وأعظم آثارها على حياة الفرد
عدة أمور:
أحدها: أنها تجعل النفس والقلب في طمأنينة وانشراح، فهي عقيدة إذا تحولت
إلى عمل وتحولت إلى أعمال قلوب: انشرح الصدر واطمأن؛ ولهذا قال الرسول صلى
الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)،
وطعم الإيمان طعم خاص يحس به أولئك العابدون لله سبحانه وتعالى حتى قال
قائلهم وهو يعيش في الدنيا عابداً لله: والله إن كان أهل الجنة يعيشون كما
نعيش الآن في راحة نفس وطعم إيمان إنهم لفي عيش طيب.
إن في الآخرة جنة لا يدخلها إلا من دخل جنة الدنيا، وجنة الدنيا إنما تكون
بالعبودية لله وحده لا شريك له، عندما تقوم أيها العبد تصلي ركعتين لله
الواحد القهار، تصوم يوماً لله الواحد القهار، تنفق نفقة لله الواحد
القهار، تؤدي حجك، تؤدي فرضك، تقوم بواجباتك كلها وأنت تحقق العبودية لله
الواحد القهار؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وأرضاه -في كلمة له يجب أن نفهمها وأن نفقهها-: والله إني لا
أحب الدنيا -أي: إنني لا أحب البقاء في الدنيا- لولا ثلاثة أمور... ما هي
هذه الثلاثة التي من أجلها أحب عمر بن الخطاب الحياة؟ وكلمته رضي الله عنه تكتب بماء الذهب، قال: لولا ثلاث:
إحداها: أن أسجد لله رب العالمين، وأؤدي الصلاة، فهو يفرح بالحياة؛ لأنه يصلي لله رب العالمين في كل يوم خمس مرات ما عدا النوافل.
والثانية قال: ولولا أني أحمل في سبيل الله، أي: الجهاد في سبيل الله، فهو يحب الحياة؛ لأنه ينتقل من جهاد إلى جهاد.
والثالثة: مجالسة الصالحين، يقول: وأني أجالس أقواماً يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب التمر. رحمك الله يا أمير المؤمنين! يا عمر بن الخطاب
! رحمك الله فلقد أحسست بقيمة العبودية لله الواحد القهار، وقد أصبحت
موازيننا وقيمنا مختلفة تماماً عن تلك القيم التي كان عليها أولئك الصحب
الكرام.
|
|
|
|
|
الأمر الثاني من أثر العقيدة على الفرد: أنها تخلص العبد من العبودية
لغير الله إلى العبودية لله سبحانه وتعالى، ووالله لو لم يكن في هذه
العقيدة إلا أنها تجعل الإنسان عبداً لله ليس عبداً للمادة، ولا عبداً لملك
من الملوك، ولا عبداً للشرف والشهرة، وإنما هو عبد لله الواحد القهار،
والله لو لم يكن في هذه العقيدة إلا أنها تحرر الإنسان التحرير الحقيقي؛
لكفى بها أهمية، ولكفى بذلك أن يعتصم الإنسان بها، وأن يحافظ عليها، من
تعلق بغير الله تبارك وتعالى ذل لذلك الغير، لكن من تعلق بالله صار عزيزاً.
|
|
|
|
|
|
هذه العقيدة التي ندعو إليها والتي بدأها رسولنا صلى الله عليه وسلم، والتي جددها المجددون في كل قرن، وقد جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله تعالى في هذه البلاد؛ هي عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى،
هي الخط المستقيم حينما خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم
خط من حوله خطوطاً أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم (هذا سبيل الله، وهذه سبل الشيطان)،
والعقيدة التي يجب أن نعتصم بها وأن ندعو إليها: هي عقيدة السلف، ومن ثم
فإننا نحب أن نبين قضية كبرى تبين منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى في
هذه العقيدة، ألا وهي مصدرهم في تلقي هذه العقيدة، ما هي مصادر تلقي هذه
العقيدة؟ ومن أي مصدر نأخذها؟ وكيف نأخذها؟
إن مصادر تلقي هذه العقيدة تقوم على الأسس التالية: ......
|
|
|
ثالثاً: المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح:
الإجماع، أي: ما أجمع عليه المسلمون وما أجمع عليه السلف الصالح خاصة، وقد
يقول قائل: إن الإجماع إنما هو في باب الأحكام الشرعية، ونحن نقول: لا، إن
الإجماع يكون أيضاً في باب العقائد، كم من قضية من القضايا محكومة عند
سلفنا الصالح لا تحتاج إلى نقاش، بل تتحول عندنا إلى ثوابت لا تتغير بتغير
الزمان والمكان، لكنّ علمانيي وحداثيي زماننا عندهم شيء اسمه الثوابت
والمتغيرات، يقولون: إن هناك كثيراً من المتغيرات تتغير بتغير الزمان
والمكان، ونحن نقول: إن الذي يتغير هو أشكال الحياة ومادياتها، لكن أصولها
لا تتغير، العبادة لله وحده لا شريك له، هي عبادة لله وأنت في كهف، وأنت
تحت ظل شجرة، وأنت في خيمة، وأنت في الطائرة محلق في الفضاء، العبودية هي
العبودية لله.
طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعته عليه الصلاة والسلام، أحكام الله
سبحانه وتعالى ثابتة، حكم الله في المسح على الخفين لا يتغير بتغير الزمان
والمكان، التيمم إذا عدم الماء أو عجز عن استعماله لا يتغير، حكم الله
ثابت، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان بمحمد صلى
الله عليه وسلم واتباع شريعته كل ذلك لا يتغير.
إذاً: في عقيدتنا ثوابت وأصول هي محل إجماع لا تتغير بتغير الزمان والمكان،
أما ضعفاء الإيمان علمانيو عصرنا وحداثيوهم ومبتدعوهم فإنهم يريدون منا أن
نغير حتى في تلك الثوابت التي لا يمكن أن تتغير، لقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي هو بشرى لكل مؤمن: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
أيها
الإخوة في الله! ومن مصادر التلقي هذه يتميز منهاج السلف الصالح رحمهم
الله تعالى، ومن هنا فإننا إذا أردنا أن نغرس العقيدة في النفوس، وأن نعود
إلى هذه العقيدة؛ فلا بد أن نعود إليها بأصولها ومصادرها كلها، لابد أن
نعود إليها بفهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وحينما نحقق ذلك نعمر
الكون، وحينما نحقق ذلك لا ننزوي وننكس رءوسنا ونموت، بل نعمر الأرض كما
عمرها سلفنا الصالح، لقد فتحوا البلاد شرقاً وغرباً وعمروها وتقدموا علمياً
في المخترعات، وحضارة أوروبا الآن إنما نشأت حينما اقتبسوا علومنا
المادية.
أيها الإخوة في الله! إنه لابد أن نعتصم بالله حتى نعود كما كنا أعزة بدين
الله، معتصمين به، حتى نعود كما كان أسلافنا الصالحين رحمهم الله تعالى على
إيمان قوي نرفع جباهنا أمام الأمم، معتصمين بالله متوكلين عليه.
|
|
|
|
|
الأساس الثاني: اعتصامنا بالكتاب والسنة لا يكفي بمجرده، بل لا بد من
أمر آخر، ألا وهو الاعتماد على فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لأنهم
هم الذين شاهدوا التنزيل، وهم الذين بلغوا الوحي، والقرآن الكريم إنما
وصلنا عن طريق الصحابة، وكذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلتنا عن
طريق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم أعلم منا بالكتاب والسنة، فإذا
اختلفنا في فهم نص من نصوص الكتاب والسنة؛ فإن الواجب علينا أن ننظر إلى
فهم أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين؛ ولهذا كان أصحابه عليه
الصلاة والسلام رضي الله عنهم قد اختصوا بصفات عظيمة منها:
شدة حرصهم على الحديث النبوي واهتمامهم في تفسيره، فهذا أحدهم يقول وهو
يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سمعته أذناي، ووعاه قلبي،
وأبصرته عيناي حين تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو هريرة الصحابي المكثر رضي الله عنه قال له الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال له: (لقد ظننت يا أبا هريرة! ألا يسألني عن هذا أحد قبلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، ثم قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).
كذلك أيضاً: كان الصحابة أهل علم وفقه، كانوا يسألون رسول الله، وكانت عائشة لا تستشكل شيئاً إلا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وراجعته فيه، و أنس بن مالك
رضي الله عنه يقول: كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه
الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه.
إذاً: كانوا حريصين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها وتبليغها،
أما تبليغ القرآن فقد تكفل الله بحفظه، وقد كانوا حفظة له مبلغين، ثم حفظ
الله هذا القرآن بجمعه وكتابته في عهد أبي بكر ، ثم في عهد عثمان رضي الله عنهم.
ثم إن هؤلاء الصحابة دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دعا لـ أبي هريرة وكما دعا لـ ابن عباس.
ثم إن هؤلاء الصحابة كانوا يحتاطون كثيراً في تحديثهم عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
أيها الإخوة في الله! إننا حينما نقول: إن من مصادر فهم الكتاب والسنة فهم
الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ إنما نقول ذلك لأن هذا يحدد المسار الصحيح
لمنهج السلف الصالح رحمهم الله.
لقد وجد في زمننا هذا، بل وجد قبل ذلك من يأخذ بنصوص الكتاب والسنة دون أن
يرجع إلى فهم السلف الصالح، فأهل البدع قديماً كانوا يأخذون بالكتاب والسنة
مع مصادرهم الأخرى من عقولهم، فإذا قيل لهم: إن هذا مخالف لفهم الصحابة
والسلف، قالوا: هم رجال ونحن رجال! فوقعوا في الجدال، ووقعوا في التحريف،
بل وقعوا في أنواع من التحريف الباطل الذي هو كفر بالله سبحانه وتعالى،
فهؤلاء الرافضة -عليهم من الله ما يستحقون- إذا تلوت على أحدهم قول الله
تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] قال: أتدري ما اللؤلؤ والمرجان؟ اللؤلؤ والمرجان هما الحسن و الحسين ، الله يقول: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:19-22]، وهذا يقول: الحسن و الحسين!
وإذا تلوت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] في قصة موسى وبني إسرائيل؛ قال لك هذا الباطني الرافضي: البقرة هي عائشة
رضي الله عنها!
وهكذا من دونهم من أهل البدع، يفسرون النصوص بأهوائهم، وفي عصرنا وجد
العلمانيون الذين لا يستطيعون رفض التراث -كما يسمونه- لأنهم يعلمون أن
الطعن في الكتاب والسنة ردة، ولكن يقولون: نحن لا نفسر القرآن والسنة كما
فسرها الصحابة والسلف، فهم رجال ونحن رجال.
وهذا وقع كثيراً حيث يأتي أحدهم إلى كتاب الله تعالى ويفسر الآية كما يشاء،
فتقول له: لقد أجمع المسلمون على هذا الفهم، ولا يجوز الخروج على إجماعهم،
فيقول: لا، لكنني أنا عربي وأفهم!
وجاءوا بتأويلات وتحريفات لنصوص الكتاب والسنة حتى ضاع الدين، وحتى حولت
العلمنة الإسلام في كثير من بلاد المسلمين إلى دين شكلي، وضاعت الشريعة،
فالربا تحول إلى ضرورة اقتصادية بفتاوى من هؤلاء، والخمر سميت بغير اسمها،
وعطلت الشريعة وإقامة الحدود وتطبيق أحكام الله في جميع الأمور، وقالوا:
هذا لا يمكن تطبيقه في عصرنا الحاضر، وإنما هذا يصلح للعصر البدوي!
قرأت لأحد الحداثيين يقول عن حكم السرقة: يجب أن نفهم حكم السرقة فهماً
عصرياً حديثاً، ويجب أن نرجع إلى أسباب النزول، قال: نزلت آية السرقة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]،
والعرب كانوا بدواً رحلاً ليس عندهم سجون ثابتة؛ لذلك عدلوا عن السجن إلى
قطع اليد، لكن في عصرنا الحاضر بنيت الفلل والبيوت والخرسانة المسلحة؛
فينبغي لنا أن نرجع إلى الأصل فنعدل عن قطع يد السارق إلى السجن!
أرأيتم إلى فهم هذا الحداثي! وهو أستاذ الحداثيين في بلادنا.
أيها الإخوة! إننا حينما نعدل عن فهم السلف الصالح ونترك الحبل على غاربه
لكل من يريد أن يفتي بلا علم شرعي؛ يتحول إسلامنا وديننا إلى أن يكون
إسلاماً أملس شكلياً، وأعداؤنا يريدون أن يكون إسلامنا شكلياً، لكن يجب أن
نعود إلى أصول العقيدة، وأن نرجع إلى المنهج الصحيح في فهم هذه العقيدة وفي
تطبيقها، وإن غضب الكثير الكثير من بني جلدتنا وأبناء عمومتنا.
|
|
|
|
|
أولها: أن المصدر الأساس لهذه العقيدة: هو كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رتب الله عليهما
الإيمان في مثل قول الله تبارك وتعالى: فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا [النساء:65]، وتحكيم الرسول إنما هو تحكيم لما جاء به من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، لا يتبعون المتشابه، ولا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما قال ربنا تبارك وتعالى عن المنافقين: أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85]، الكتاب والسنة هما مصدر العقيدة، فكتاب الله لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]،
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لذلك الكتاب، ومن ثم
فإننا نأخذ عقيدتنا من الكتاب والسنة، فإن أعظم مصدر للعقيدة هو الكتاب،
ووالله لو تأملنا كتاب الله تعالى لوجدنا فيه القضايا العقدية المتعددة،
سواء ما يتعلق بتوحيد الربوبية، أو الألوهية، أو الأسماء والصفات، أو
الإيمان بالقضاء والقدر أو الإيمان باليوم الآخر، أو بالرسل وعلى رأسهم
خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ففي هذا القرآن ما يشفي الصدور، ويعمر
القلوب، ويغذي النفوس بعقيدة صالحة.
ثم بعد ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله أن الله هيأ لهذه
الأمة من يمحص سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويميز صحيحها من ضعيفها؛
فجاءتنا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم صافية، صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، صحيح مسلم هو الكتاب الثاني بعد صحيح البخاري، فكل ما فيهما من الأحاديث صحيحة، وهل فيهما عقيدة؟
نعم والله! فيهما عقيدة، بل أبواب من أبواب العقيدة، في صحيح البخاري
تجد كتاب الإيمان، تجد كتاب التوحيد، تجد كتاب القدر، تجد كتاب الفضائل
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد كتاب بدأ الخلق، تجد كتاب
القيامة وما فيها، والجنة وما فيها، أبواب وكتب في صحيح البخاري ، وكذلك أيضاً في صحيح مسلم ، وكذلك أيضاً في غيرهما من السنن والمسانيد، وكل ذلك عقيدة صافية ممحصة.
فنحن نجعل هذا الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدر؛ ولهذا أيها الإخوة في الله! سئل الزهري -الإمام المشهور- عن قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود)،
ما معناه؟
فأجاب بجواب يبين كيف نتعامل مع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال رحمه
الله: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، نسلم بما جاء من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه
العزيز: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]،
فإذا اختلفنا في شيء فإلى من نرده؟ هل إلى أهواء البشر وإلى قوانين البشر
وإلى عادات البشر؟
لا، بل نرد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذه عقيدة، فإذا اختلفت
الأهواء وتعددت البدع فإلى من نتحاكم؟
نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لنميز المنهج
الصحيح من غيره، وحين تختلف الأمة في أحكام الحوادث النازلة بها، فيجب
عليها عقيدة أن تتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وغيرها من الآيات التي تأمر بالتحاكم إلى الكتاب والسنة، يقول شيخ الإسلام
: وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب
والسنة، وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق -انتبهوا!- بين الأدلة
الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة من بعض الطواغيت من
المشركين وأهل الكتاب.
المنافقون يريدون التوفيق بين نصوص الوحي وبين أهوائهم، يريدون التوفيق بين
العقل وبين النقل، يريدون التوفيق بين نصوص الشرع وبين السياسات الجائرة
والقوانين الوضعية، فماذا يقول الله عنهم؟ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62]،
ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق، فبين الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء
منافقون.
أيها الإخوة في الله! ومن هنا فإن التنازع يجب أن يرد حين يقع إلى كتاب
الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن الناس تجاه الكتاب
والسنة ينقسمون إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: يقبل الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً.
القسم الثاني: يقبله ظاهرا ًولكنه يرده باطناً، وهؤلاء هم المنافقون الذين
يقولون: نحن نريد الكتاب والسنة، ونعتمد على الكتاب والسنة، ونريد أن تكون
عقيدتنا قائمة على الكتاب والسنة، لكنهم في الباطن مخالفون لهذا، ويجلسون
مع أعداء الله من المنافقين ومن غيرهم ويقولون لهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
القسم الثالث: من رده ظاهراً وباطناً، وهؤلاء هم الكفار.
القسم الرابع: من قبله باطناً، ولكنه جحده ظاهراً لأمر طرأ عليه، وهذا قد يقع لبعض المستضعفين الذين أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان.
أيها الإخوة في الله! إن المصدر الأساس لهذه العقيدة هو الكتاب والسنة، وفي الكتاب والسنة ما يغني ويكفي والحمد لله.
|
|
|
|
|
قد أشرت إلى أن مصدر العقيدة هو الكتاب والسنة، والسنة في منهاج
السلف الصالح: هي كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فلم
يكن السلف الصالح رحمهم الله تعالى يفرقون بين ما هو متواتر وآحاد، وعلماء
الحديث يقسمون الحديث إلى قسمين: متواتر: وهو ما رواه جمع عن جمع يستحيل
عليهم الكذب.
والآحاد: وهو ما دون ذلك، إما رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر لكن لم
يبلغ حد التواتر.
منهاج السلف الصالح أنهم يحتجون بالأحاديث إذا صحت دون أن يفرقوا بين
المتواتر وغير المتواتر، لكن أهل البدع من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم
قالوا: إن أخبار الآحاد تفيد الظن فلا يحتج بها في باب الاعتقاد، ونقول
لهم: إن هذا ضلال وانحراف، ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون
هذا التفريق بين أحاديث الآحاد وغيرها، ولم يكونوا يميزون بين العقيدة
والأحكام، بل يأخذون بأحاديث الآحاد سواء كانت مما ترتب عليه حكم شرعي أو
كان خبراً عن الله أو خبراً عن اليوم الآخر، أو أي قضية من قضايا العصر؛
ولهذا فإن منهج السلف الصالح رحمهم الله أن الحديث الصحيح إذا ثبت وتلقته
الأمة بالقبول، فإنه يفيد العلم، ويحتج به في باب العقيدة كما يحتج به في
باب الأحكام الشرعية، والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا يتلقون الحديث ولو
كان آحاداً، ولم يكونوا يفرقون بين ما هو عقيدة وما هو شريعة، فالصحابة
وصدقوا بأحاديث عذاب القبر وهي أحاديث آحاد ليست متواترة، صدقوا بالأحاديث
المتعددة المتعلقة بحوض النبي صلى الله عليه وسلم أو بالميزان أو بالصراط
أو حتى فيما يتعلق ببعض صفات الله تعالى، وأثبتوها وإن كانت أحاديث آحاد
ليست متواترة، لم يكونوا يفرقون بين هذا وهذا، النبي صلى الله عليه وسلم
بعث معاذاً إلى اليمن، ولما بعثه علمه كيف يدعو فقال له: (يا معاذ إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، فهل قال المسلمون هناك في اليمن لـمعاذ: أنت أتيتنا بعقيدة أنه لا إله إلا الله، لكنك واحد، وهذا خبر آحاد لا نقبل هذا حتى يأتي معك جمع؟!
لم يفعلوا ذلك، وإنما استجابوا لـمعاذ.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الآحاد إلى الملوك وإلى القبائل
معلمين لهم العقيدة شارحين لها، وكان أولئك يتقبلونها دون أن يفرقوا بين
العقائد والأحكام.
إذاً: ما عليه أهل البدع من المعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة وغيرهم من
الطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مخالف تمام المخالفة لمنهاج
السلف الصالح رحمهم الله تعالى. ......
|
|