الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

مَنْهَجُ السَّلَفِ في العَقِيدَةِ وأثَرُهُ في: وحدَةِ المُسلِمِينَ

مَنْهَجُ السَّلَفِ في العَقِيدَةِ وأثَرُهُ في:
وحدَةِ المُسلِمِينَ
الدكتور صالح سعد السحيمي
أستاذ مساعد بكلية الشريعة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
وبعد:
فهذا جهد متواضع أساهم به لبيان المنهج الذي كان عليه السلف الصالح في العقيدة ومدى مخالفة الناس لذلك المنهج مما فرق كلمة المسلمين وأضعف وحدتهم.وجعلت عنوان البحث: منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين وقد حملني على ذلك إهمال كثير من الباحثين لهذا الجانب، أعني جانب العقيدة، والذي هو العامل الأول والركيزة الأساسية التي ينبني عليها كيان المجتمع الإسلامي، وتنضوي تحت لوائها صفوف المسلمين. منها يستلهمون طريق وحدتهم، وعلى ضوئها يشقون طريقهم إلى أعلى قمم المجد والعلى وبهداها ومبادئها القيمة يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا الأمصار والأقطار، ولقد كثرت المؤلفات والخطب والمحاضرات والمواعظ والندوات التي تنادي بنجدة المسلمين وجمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم بالأساليب المتعددة، وطرح الحلول الكثيرة، لكن هذه الأساليب والحلول، ناقصة وغير تامة نظراً لاهتمامها بالجوانب الفرعية فقط. فنجد أن جماعة ممن يهتمون بعوامل التضامن الإسلامي يركزون جل اهتمامهم على الجانب السياسي. ونجد جماعة أخرى تركز على الجانب الأخلاقي، ونجد جماعة ثالثة تركز على جوانب الترغيب والترهيب والزهد والورع. وقلّ أن تجد بين هؤلاء من يهتم بالجانب الأساسي والركن العظيم، والذي هو الحصن الحصين، والمنطلق المتين لجمع كلمة المسلمين، ألا وهو عقيدة التوحيد الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وألف بين قلوبنا بعد التمزق,حتى أصبحنا به أمة واحدة ذات هدف واحد ومنطلق واحد , وعقيدة واحدة , هي مصدر عزتنا , وعنوان سعادتنا , ومناط وجودنا في هذه الحياة . إنها عبادة الله الذي لا إله غيره , ولا رب سواه إنه الهدف الاسمي , والمقصد الأعلى الذي خلقنا الله له , وأوجدنا من أجله , كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
إذا تأملنا هذه الآيات الكريمة وما جاء في معناها، وما أكثره في كتاب الله، وجدنا أن أساس كل عمل في الإسلام إنما ينطلق من العقيدة، ويرتكز عليها، كما يرتكز البناء على أركانه.
والبيت لا يبتنى إلا له عَمدٌ
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
إذا عرفنا ذلك فإن أية دعوة إلى التضامن الإسلامي، إذ لم ينطلق أصحابها من هذا المبدأ الأساسي، ولم تؤسس على هذا البناء الراسخ، ولم تقم على تحقيق التوحيد، وتخليصه من شوائب الشرك، والبدع، والمعاصي، فإنها دعوة سيكتب لها الفشل لا محالة. عاجلاً أم آجلاً لأن البناء، لا يقوم في الهواء ولا يمكن تشييده إلا على أرض صلبة حتى لا يتعرض للانهيار يوماً من الأيام.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وحينما نقول إن مبنى التضامن الإسلامي على عقيدة التوحيد وعندما ندعوا إلى وجوب الانطلاق من هذا المبدأ، فإن ذلكَ لا يعنى إهمال الجوانب الأخرى التي أشرنا إليها أو إلى بعضها في ما مضى، وإنما نعني وجوب التأسيس وذلك بأن نبدأ أعمالنا كلها من هذا المنطلق.
فعلى ضوئه تكون السياسة، وعلى منهجه تبنى الآداب والأخلاق، وفي حدوده ندعو إلى الترغيب، والترهيب، وعلى مبادئه يوجد بإذن الله المجتمع الإسلامي الصالح المنشود، وتوجد السعادة البشرية في الدنيا والآخرة، ويعود الناس إلى دين الله أفواجاً فينعمون بالخير، والأمن، والطمأنينة وفق هدى العقيدة الخالصة الوارفة الظلال، فيتخلصون بذلك من أدران الوثنية، وأوضار الجهل، وحينئذ تصفو قلوبهم، وتخلص لله وتخلع ربقة الشرك الذي ران عليها سنين طويلة، والذي هو أعظم ذنب عصي به الله عز وجل، منذ أن انحرف الناس عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من الإفراط والتفريط والغلو والتقصير، فلقد كان الإنسان في أول خلقه على المنهج الرباني الصحيح، عقيدة وسلوكا، وأخلاقاً، وعبادة، ومعاملة، حقبة من الزمن.
يذكر علماء التاريخ، والسير بأنها تقدر بعشرة قرون، إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، والأوثان، بسبب الغلو في الصالحين. فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو، بطريق التدريج، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمناً طويلاً إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم. ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير، ويشب عليها الصغير إلى أن بعت الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه فأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو، ومجاوزة الحد، واتباع الهوى الذي أدى بالناس إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى. وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير ما آية.
والغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.
وأهل الكتاب هنا، هم اليهود، والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فنقلوه من حيز النبوة إلى أنْ اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلو فيمن زعم أنه على دينه من اتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أم باطلاً، ناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فحطوا من منزلته حتى جعلوه ولد بغي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بافراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك، فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبى طالب رضي الله عنه، وقاتلوهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح، والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية، والمعتزلة. وقال أيضاً: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أهـ.
وهذا الكلام يدل دلالة واضحة على أن أعظم فتنة ابتليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو الذي جاء التحذير منه في غير ما آية وحديث، وقد تقدم من الآيات ما يوضح ذلك. أما الأحاديث فمنها ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". وثبت في سنن أبي داود والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو فإن ما أهلك من كان قبلكم الغلو".
وهذه نصوص صريحة، وواضحة في أن سبب الانحراف عن العقيدة الصحيحة والفطرة السليمة إنما هو ذلك الغلو ومجاوزة الحد الذي أدى بالتالي إلى صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي من أجله بعث الله الرسل لإعادة الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ذلكم هو الهدف الأسمى الذي أوجد الله من أجله الثقلين، الجن، والإنس. فكل عاقل في هذا الوجود يعرف أنه مخلوق لخالق، ومربوب لرب أوجده بعد العدم.
لو طرح سؤال مفاده: لماذا خلقت في هذه الحياة؟ ولماذا فضلت على سائر الكائنات الأخرى؟ وما هي مهمتك في هذه الحياة؟.. فإن الجواب عند المؤمن حاضر بكل بساطة: إن كل صانع يعرف سر صنعته، لماذا صنعها.. ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره...
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه، ومدبر أمره فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان؟ هل خلقته لمجرد الطعام والشراب.؟ هل خلقته للهو واللعب؟ هل خلقته لمجرد أن يمشي على التراب، ويأكل مما خرج من التراب، ثم يعود كما كان إلى التراب، فإذا لم يكن الأمر كذلك فما سر هذه القوى والملكات التي أودعها الله الإنسان من عقل وإرادة وروح.
لقد جاء جواب ذلك بما يشفي، ويكفي في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، حيث نص تبارك وتعالى على أنه خلق هذا الإنسان ليكون خليفة في الأرض.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} . وهذه الخلافة معناها أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته، ويعبده حق عبادته.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
وإذن، فالجواب البدهي الذي تنطق به الفطرة في هذا الكون، أن الإنسان عبد لله خلق لذلك، وسخر الله له ما في السماوات، وما في الأرض، من أجل تحقيق الغرض.
ومن هنا يعلم كل ذي فطرة سليمة، وعقل متجرد، أن عبادة الإنسان لقوى الطبيعة ومظارها من فوقه، ومن تحته كالشمس، والقمر، والنجوم، والأنهار، والأبقار، والأشجار، ونحوها قلب للوضع الطبيعي، وانتكاسٌ بالإنسان أي انتكاس !!
والإنسان إذن , بحكم فطرته، ومنطق الكون، إنما هو مربوب لله سبحانه لا لغيره، لعبادته وحده، لا لعبادة بشر، ولا حجر، ولا بقر، ولا شجر، ولا شمس، ولا قمر، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان.
ولذا نرى أول نداء يوجهه الله لرسله هو الأمر بعبادته، وبيان أنه لا إله غيره، ولا رب سواه، اقرأ مثلا: قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان، ورسخه في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ خلقهم، وصورهم، وجعلهم في أحسن تقويم ، وأوجد فيهم العقل الواعي، الذي يتميزون به على سائر الكائنات، وجعل كل ما حولهم من الآيات البينات دليلاً قاطعاً على وحدانيته سبحانه، وإفراده بكامل العبودية، وأخذ العهد عليهم حيث قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
ومن هنا نعلم أن كل عبادة لغير الله، وإن ظهرت في صورة عبادة حجر، أو شجر، أو مدر، أو هوى، إنما هو من إيحاء الشيطان، وتزيينه، ووسوسته بشكل مباشر أو غير مباشر، بغض النظر عن القالب الذي ظهرت فيه تلك العبادة، ولذا نرى أنَّ الله تبارك وتعالى قد أخذ العهد على بني آدم منذ أن كانوا في صلب أبيهم آدم.
هذا العهد بين الله وعباده، هو الذي صوره القرآن في أروع صورة، وبلاغة، حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} .
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية، أو التقليد الأعمى.
ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
بهذا دعا قومه، نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال تعالى بعد أن ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت. كما قال تعالى على لسان قوم: {وكنا وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وهو الموت. فالتكليف بالعبادة لازم له حتى يلقى ربه.
ولم تسقط عنه بسمو الروح، ولا بالاتصال القوى بالله كما يدعي غلاة الصوفية.
وقال تعالى في شأن عيسى بن مريم الذي رفعه قومه إلى مرتبة الألوهية {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
ويعرض لنا القرآن مشهداً من مشاهد يوم الحشر. يسأل الله فيه المسيح عليه السلام عما نسبوا إليه، وافتروه عليه، فيجيب في أدب العبودية متبرئا مما صنعوا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
فالأديان كلها دعوة إلى عبادة الله وحده. والأنبياء جميعاً أول العابدين لله. وعبادة الله وحده هي- إذن مهمة الإنسان الأولى في الوجود كما بينت ذلك كل الرسالات.قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه نوحاً} . فقد دلت الآية الكريمة وما في معناها على وحدة الهدف والعقيدة التي هي محور دعوة جميع الرسل من لدن نوح عليه السلام إلى خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رحمة للعالمين ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من أوحال الشرك، وأدران الوثنية، فكان بذلك نبراساً للأمة ينير لها الطريق، ومشعلا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يترسمون تلك الخطأ النبوية، ويستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا، وفتح الله لهم أبواب الخير من كل مكان ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. وكل عاقل يدرك أن هذا النصر المؤزر الذي حققه الله على أيديهم لم يكن وليد الصدفة، ولم يكن بسبب العدد والعدة، وإنما تحقق ذلك، بسبب اعتمادهم على الله، والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وبدئهم بالأهم قبل المهم، وانطلاقهم في دعوتهم من تحقيق كلمتي التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله "، لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدءوا به، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.... الحديث ".
ومما يدل على أهمية العقيدة، وكونها أساس كل عمل، تكفيرها للذنوب والكبائر، إذا صدرت عن إخلاص وقوة إيمان، يدل لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فتطيش السجلات، وتثقل البطاقة.
وإذاً فتوحيد الله تعالى، هو رأس الأمر كله، والجسد لا يستقيم بلا رأس، كما قال صلى الله عليه وسلم رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
وهذه نصوص صريحة دالة على وجوب البدء بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، قبل جميع التكاليف، لأن قبول جميع التكاليف مرهون بتحقيق ذلك، وهذا ما سار عليه السلف الصالح في دعوتهم، مما حقق النجاح في برهة وجيزة، أذهلت العقول، وتحطمت أمامها عروش الكفر والطغيان.
وقد استمر الأمر على هذا الحال ثم بدأ الانحراف بعد ذلك عن هذه الجادة بسبب الانصراف عن الكتاب والسنة الذين يجب أن نأخذ العقيدة منهما والاشتغال بالفلسفة والمنطق، اللذين لم يستفد منهما المسلمون غير تخريب العقيدة، والقيل, والقال، والجدل الذي لا طائل تحته ولا جدوى من ورائه حتى قال قائلهم:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
الأمر الذي حدا بكثير من الناس إلى تعطيل صفات الله عز وجل، أو تفويضها، أو تأويلها، أو تمثيلها، وكذلك الحالة في عبادة الله عز وجل حيث لم يقتصر الأمر على التقيد بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في ذلك، حتى أصبح الناس في العبادة نتيجة لجهلهم بما كان عليه السلف الصالح من صحة الاعتقاد، أصبحوا ما بين مُفْرِطٍ ومُفَرِّطٍ ، فالمفرطون أسرفوا في دعوى المحبة حتى أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة والدعاوى التي تنافي العبودية، وتثبت الربوبية أو شيئاً منها لغير الله، ومعلوم أن الرب والمعبود هو الله وحده، ومع ذلك يدعي هؤلاء دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين- فضلاً عن عامة الناس، أو يطلب من غير الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، لا يصلح للأنبياء ولا للمرسلين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ (يعنى شيوخ المتصوفة) وسببه: ضعفه تحقيق العبودية التي بينها الرسل، وحددها الأمر والنهي، الذي جاءوا به، بل ضعْفُ العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
وإذا ضعف العقل، وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويكون سببا لبغض المحبوب له، ونفوره منه، بل سببا لعقوبته.
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: "أي مريدٍ لي ترك في النار أحداً فأنا بريء منه، وقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء".
فالأول : جعل مريده يخرج كل من في النار.
والثاني : جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.
ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين - وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم. أه.
وإذا كانت هذه المقالات الإلحادية قد وجدت في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله، فإن في عصرنا من الدعاوى التي تبلغ حد التأليه، ما هو أدهى وأمر.
من ذلك قول أحد زعماء الطرق الصوفية المعاصرين:
قد خصني بالفضل والتشريف
إن قلت كن يكن بلا تسويف
ويدعي هذا الكذاب الأشر أن رجلا نصرانيا دخل الجنة بسبب أنه عاشر امرأة من أتباع ذلك الشيخ، معاشرة غير شرعية مع أن المرأة التي عاشرها كما يقول ليست ملتزمة بالطريقة، ولكنه دخل الجنة ببركة شيخ الطريقة التي تنتمي إليها هذه المرأة، ويقول أحد الأفّاكين من هؤلاء إن من ضرورات مذهبهم أن لأئمتهم درجة لا يبلغها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلى غير ذلك من المقالات الكفرية وإلحادية، القديمة والحديثة، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى.
تُرى ماذا ترك هؤلاء الملاحدة لله من العبودية، إذا ادعوا بلوغ مثل هذه المراتب، وإذا سئلوا عن تفسير هذه التراهات، ادعوا أنهم كانوا في حالة سكر بحب الإله.
قال الشاعر في التهكم بهم ووصف أحوالهم التي يزعمون أنها عبادة:
ألا قل لهم قول عبد نصـ
ـوح وحق النصيحة أن تستمع
متى علم الناس في ديننا
بأن الغنا سنّةٌ تتبع؟
وأن يأكل المرء أكل الحمار
ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القِصَع
كذاك البهائمُ إن أُشْبعت
يرَقصها رِيُّها والشِبَعْ
ويسكره النايُ ثم العنا
ويس لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى
ألا منكر منكمو للبدع
تهان مساجدنا بالسماع
وتكرم عن مثل ذاك البيع
وقال آخر:
تُلي الكتاب فأطرقوا، لا خيفةً
لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى العناء، فكالحمير تناهقوا
والله ما رقصوا لأجل الله
دفٌ ومزمار ونغمةُ شادن
فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثَقُلَ الكتاب عليهمُ لماّ رأوا
تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعداً وبرقا, إذ حوى
زجراً وتخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن
شهواتها،يا ذبحها المتناهي
وأتى السماعُ موافقاً أغراضها
فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع
أسبَابَه،عند الجَهول الساهي؟
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه
خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه
وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه
من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
وما وصفه الشاعر من أحوال هؤلاء الناس يعطى صورة حقيقية عن مدى الانحراف الذي وقعوا فيه حيث بلغ بهم الحال إلى اعتبار الرقص والغناء عبادة تقربهم إلى الله بدعوى أن تلك الرقصات والأنغام الصوفية إنما هي نابعة من قلب مفعم بالمحبة، فجعلوا محبتهم للخالق مشابهة لمحبة المخلوق للمخلوق من وجود العتاب، والعذل واللوم والغرام، ونحو ذلك مما يجب أن ينزه الله عنه. لأنه لا يليق بجلال الله وعظمته.
ولكن الدليل والبرهان على محبة القلب لله وخضوعه له إنما يتجسد في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . فلا يكون محبا لله إلا من اتبع رسوله.
وطاعة الرسول، ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.

وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر. وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة لشريعة الرسول وسنته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله، الجهاد في سبيله. والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به. وكمال بغض ما نهى الله عنه. ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} . ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم. وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل.
"هذا صنف".
والصنف الثاني وهم المُفَرّطون الذين غلطوا في فهم حقيقة العبادة وهم الذين ظنوا أن المحبة تنافي أدب العبودية، ولا تصاحب خشية الله ومخافته التي يجب أن يتصف بها كل عبد لله. كما ظن أن المحبة لا تتحقق من المخلوق للخالق، إنما المطلوب منه الطاعة والخضوع فقط.
ولذا نجد بعضهم يقول اللهم إني أعبدك لا طمعاً في ثوابك ولا خوفاً من عقابك، فانظر يا أخي المسلم، كيف فصلوا بين العبادة وبين الخوف والخشية، والمحبة، والرجاء.
والحقيقة أن المحبة لا تنافي الخشية، والمخافة بل الخوف لازم للمحبة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له.
وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه، راغباً راهباً، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} . إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصوله مرغوبه، فلا يكون عبدا لله، ومحبه، إلا بين خوف ورجاء. كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .
فقد دلت الآية الكريمة على أن كل عبد مخلص لله لابد أن يكون مع عبادته بين الخوف والرجاء، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي للمسلم أن يُغلّب جانب الخوف في الصحة حتى لا يأمن من مكر الله، وأن يُغلَّب جانب الرجاء في المرض حتى لا ييأس من رَوح الله، والآية الكريمة نزلت في أناس من الإنس كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجن، وبقي الإنس على عبادتهم إياهم، فأَخبر الله تعالى، إن هؤلاء المدعوين يطلبون القربة إلى الله، عز وجل، بالعمل بما يرضيه، خوفاً من عقابه. وطمعاً في ثوابه، وهذا ينطبق على كل من يدعو غير الله في الوقت الذي يكون المدعو أحوج ما يكون إلى عبادة الله. كما يقال: "فاقد الشيء لا يعطيه"ومع ذلك نجد كثيراً ممن انتكست فطرتهم، يعكف عند ميت في قبره، يطلب منه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويزعم أنه يعلم الغيب، ويعطي الولد، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله.
ولا نكاد نجد بلداً من بلاد الإسلام، إلا وفيه أنماط من هذه الطقوس التي حالت بين الناس، وبين فهم العقيدة الصحيحة. ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى بيان تلك العقيدة الصافية، الخالصة، التي ترتكز على نصوص الوحيين الكتاب والسنة.
فالإنسان في كل زمان، ومكان، في حاجة ماسة إلى عقيدة تحدد له غايته، وتوضح له منهجه الذي يسير عليه لتحقيق هذه الغاية، ولكنه عندما تنتكس فطرته، وتطول غفلته، وينقلب فهمه، حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن، عندها تتحول عقيدته إلى حجر يقدسه، أو شجر يعظمه، أو شمس تضيء نهاره، أو قمر ينير ليله، أو بحر تتلاطم أمواجه، أو نار تتلظى، أو حيوان يهابه، أو إنسان يكبر في نفسه، أو أي مخلوق يرى له فضلا عليه من ملك، أو جني أو نبي، أو ولي، ميت أو حي، فيتعلق من ذلك كله بما هو أوهى من خيوط بيت العنكبوت.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
وقد يكون ذلك منه لمجرد التقليد من غير وعي، أو تفكير: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ. بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .
وقد يكون الانحراف في العقيدة، باتباع الهوى الذي ذمه الله في غير ما آية، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} .
وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
وفي هذا العصر الذي أدلهمت فيه الظلمات، وانقلبت فيه الحقائق، وتغير ت فيه المفاهيم، يتساءل الفرد المسلم عن طريق الخلاص، يتساءل وهو حائر بين هذه الجماعات المتصارعة، والأحزاب المتناحرة، والدعوات المتفرقة ذات المناهج المختلفة التي تدعي لنفسها السير على المنهج الصحيح.
وكل يدعي وصلاً لليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك
وهذه الدعوات لا يخلو أمرها من حالين:
إحداهما : الخطأ في المنهج والسلوك:
كمناهج الطرق الصوفية التي ذكرنا فيما سبق بعض مقالاتهم الإلحادية التي لا تَمتُ إلى الدين بصلة بل صرفت اتباعها عن الاعتماد على الكتاب والسنة اللذين هما مصدر شريعة الإسلام.
والحال الثانية: الخطأ في الفكر:
كمثل جماعات الدعوة الإسلامية المعاصرة، والتي تنطلق في دعواتها من منطلق حزبي ضيق.
الأمر الذي بعد بهم عن منهج السلف الصالح، إذ أن هذه الجماعَات لم تؤسس بناء دعوتها على توحيد الباري جل وعلا. والعقيدة السلفية الصافية من الشوائب.
فإن من تأثر بتلك الدعوات إن كان من أهل العقيدة أصلاً لا يكون ولاؤه لها، ولا يكون فكره متفقا معها، بسبب سيطرة هذه المناهج على أفكاره، حتى ماتت العقيدة في نفسه، فأصبح لا يدعو لها وإن كان يعتقدها، لكنه بعد عنها تحت تأثير المنهج الحزبي، لأنه يوالى، ويعادي على ذلك الفكر الضيق، الذي بني على غير أسس سليمة، فلا يكون للعقيدة مكان ولا مجال في التطبيق العملي، ولا تعطي ثمراتها الطيبة اليانعة، فهي لا تفيد معتقدها، لأنها قد فقدت روحها، فأصبحت، بلا روح كالجذوة التي استترت وانغمرت تحت الرماد.
وخطورة هذا الأمر لا تقل خطورة عن الجهل بالعقيدة، فإن من يعرف العقيدة ولا يدعو إليها، هو كالجاهل بها سواء بسواء. وهؤلاء إنما أصيبوا بالخرس عن الدعوة إلى العقيدة بدعوى أن ذلك يفرق الأمة، ويمزق كيانها. لأنهم يريدون أن يجمعوا تحت لوائهم من هب ودب. لا فرق في ذلك عندهم بين ملتزم بالعقيدة الصحيحة وغيره. إذ إن الهدف الذي يقصدونه هو مجرد الجمع دون تمييز.
وهذا منهج بلا شك سينتهي بأصحابه إلى الفشل الذريع نظراً لكونه قد بنى على غير أسس سليمة. وذلك أن أصحاب هذا المسلك أتوا من عدم الفهم، والإدراك الصحيح حيث لم يفرقوا في الدعوة، بين الأصول، والفروع، فتراهم يبدأون بالدعوة إلى بعض الفروع، ويزعمون أنه متى أقيم هذا الفرع، فإنه سوف يوجد الأصل تلقائيا، ولذا نرى كثيرا منهم يهتمون بالجانب السياسي، بدعوى أنه متى وجدت الدولة التي ينشدونها عند ذلك تصلح العقيدة، وغيرها، مما فسد من أحوال المسلمين، وهذا تصور غير صحيح، لأن صاحب هذا التصور ذكر شيئاً، وغابت عنه أشياء.
نعم الإسلام دين، ودولة، وعقيدة، وشريعة، ولكن يجب أن نأخذه كوحدة متكاملة بحيث ينطلق في سياسته، وجميع أموره أن العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وهما كفيلان ببيان منهج الدعوة الإسلامية. كما فصلنا ذلك فيما تقدم.
لا بمجرد الدعاية والأناشيد الحماسية والهتافات، والشعارات الجوفاء التي لم يستفد منها المسلمون سوى القضاء على الدعوة وأهلها في كثير من البلاد، حيث يهيجون الشباب المسلم، ويلهبون حماسه، ويستثيرونه، إلى أن يثور، ويتحرك، فيقع في أيدي الطغاة الظلمة، أعداء الإسلام والمسلمين، فيقضون على هؤلاء الشباب، ويهدرون هذه الطاقة نتيجة لذلك المسلك الخاطئ، الذي تسلكه تلك الجماعَات في دعوتها. وإذا أردنا، أن يتحقق للمسلمين، ما يصبون إليه وما يتطلعون إليه، من العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح، فعلينا أن نسلك بهم طريق التعليم، والتربية، وتفقيه الشباب المسلم في دينه، وتبصيرهم في ذلك حتى تزول بإذن الله تلك الشوائب التي علقت بالدين، ودعوته، وتلك الرواسب التي أكل عليها الدهر، وشرب، والتي انحرفت بالمسلمين عن الجادة الصحيحة التي رسمها الله عَز وجل، في كتابه المبين، وبينها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، ولنا أسوة حسنة في أولئك الدعَاة المصلحين الذين أسسوا دعوتهم على عقيدة الإسلام، وبدأوا بتطهيرها من شوائب الشرك والخرافات.
الأمر الذي تحقق بسببه رفع راية التوحيد, خفاقة في ربوع الجزيرة العربية، بعد أن ران عليها الجهل، وخيم عليها الظلام، عدة قرون، وعاد كثير من الناس إلى الشرك، والخرافات، فانقشع ذلك الجهل، وتحول ذلك الظلام إلى نور، على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الذي بدأ بتعليم الناس، العقيدة الصحيحة، وقامت بفضل هذه العقيدة، دولة التوحيد، منذ أن قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله، مؤسس هذه الدولة المباركة بتبني، هذه الدعوة، فكتبَ الله لها بذلك النصر، والبقاء، وزالت مظاهر الشرك، والوثنية في برهة وجيزة، وهى لم تكن لتزول، لو لم تنطلق هذه الدعوة من روح ا لعقيدة.
ولست مبالغاً حينما أذكر هذه الحقيقة، فإنها حقيقة يسلم بها الأعداء؟ فضلا عن الأصدقاء، والحق محا شهدت به الأعداء.
وخلاصه القول أنه لا صلاح لنا، ولا فلاح، ولا نجاح لدعوتنا، إلا إذا بدأنا بالأهم، قبل المهم، وذلك بأن ننطلق في دعوتنا ثمن عتيدة التوحيد، نبني عليها سياستنا، وأحكامنا، وأخلاقنا، وآدابنا, ننطلق في كل ذلك أن هدف الكتاب، والسنة، بلا إفراط، ولا تفريط، ذلكم هو الصراط المستقيم، والمنهج القويم، الذي أمرنا الله تعالى، بسلوكه، فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه}.
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم أمرين، لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي ".
ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
اللهم إنا نسألك أن ترد المسلمين إلى دينهم رداً جميلا، ونسألك أن ترينا الحق حقاً، وترزقنا اتباعه، والباطل باطلاً، وترزقنا اجتنابه وأن لا تجعله ملتبساً علينا فنضل. إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق